السينما المصرية.. الاصطفاف الأيديولوجي (2 - 3)

السينما المصرية.. الاصطفاف الأيديولوجي (2 - 3)

22 فبراير 2017
(مشهد من "بعد الموقعة")
+ الخط -
ما أشبه اليوم بالبارحة وما أشبه ذاك الشتاء بالخريف الذي نحياه !.
أعداء الوطن، هي الكلمة المفتاح التي سمعها سبع الليل من ابن بلدته الطالب الجامعي حسين وهدان، وهو يشجّعه على الالتحاق بالتجنيد الإجباري لمحاربتهم.

وهي الكلمة السحرية التي اعتمدها سدنة المعبد السلطوي من الساسة المتخاذلين، وخدم الإعلام السلطوي للتحريض على المتظاهرين بميدان التحرير، ومختلف الميادين المصرية قبل ست سنوات ولا يزالون.

وهي الكلمة نفسها التي قد يكون من هاجموا متظاهري التحرير يوم موقعة الجمل الشهيرة سمعوها من محرضيهم، فانطلقوا إلى الميدان لتحريره من الأعداء. فكان أن نقلت شاشات التلفزيون العالمي ملحمة/ فضيحة، من ملاحم/ فضائح التاريخ العربي المعاصر، تواجه فيها الفريقان بالخيول والجمال والحجارة والمقالع، وكأن التاريخ توقّف عند لحظة الحروب القبلية الغابرة بأسلحتها البدائية، في الوقت الذي كان الأمل معقودًا في نقلة مستقبلية ترتقي بالعرب إلى "دولة المواطنة" لا غير، لكن الواقع أثبت أنها مجرّد "دولة مجانين".

مع توالي يوميات الحراك ضاقت الدائرة على مهندسي القبضة الأمنية، كما ظهروا في فيلم "الشتا لي فات"، فجنحوا إلى الصمت المطبق في الاجتماعات التي تحوّلت إلى غرف أضيق وعلى طاولات أصغر، وحين احتاروا في كيفية التعامل مع الأحداث لم يجدوا غير "المواطنين الشرفاء" لدفعهم للمواجهة، علمًا أن المواطنين الشرفاء كانوا في خطاب مبارك هم "الشباب الثوري الطاهر" ليصبحوا في خطاب ورثته بلطجية ومأجورين.

مبارك كان حاضرًا في الفيلم بصوته وغابت صورته، لكن حيرة النظام "المتهاوي" انعكست على وجوه متابعي الخطابات وهي تسمعه يقول: "دماء شهدائكم وأبنائكم لن تضيع هدرًا"، ليواصلوا السؤال المحيّر منذ بداية الفيلم:"هو إيه ايللي حاصل في البلد؟".

اختفى مبارك من المشهد أو يكاد، عشرة أيّام كاملة ترك فيها تصريف الأزمة لمعاونيه على أمل الوصول إلى حل فانطلقت المشاورات، وشملت حتّى القوى المحظورة، لتحديد أجندة التعديلات الدستورية ورفع حالة الطوارئ، واعتقلت قيادات أمنية وأقيلت أخرى حزبية، ومُنعت رموز فاسدة من السفر، واقتربت جمعة الزحف. فكان لابد من خطاب ثالث.

"أقول لكم قبل كل شيء، إن دماء شهدائكم وجرحاكم لن تضيع هدرًا، وأؤكد أنني لن أتهاون في معاقبة المتسبّبين بها بكل الشدة والحسم، وسأحاسب الذين أجرموا في حق شبابنا بأقصى ما تقرّره أحكام القانون من عقوبات رادعة، إن مصر تجتاز أوقاتًا صعبة لا يصح أن نسمح باستمرارها فيزداد ما ألحقته بنا وباقتصادنا من أضرار وخسائر يومًا بعد يوم، وينتهي بمصر الأمر إلى أوضاع يُصبح معها الشباب الذين دعوا إلى التغيير والإصلاح أول المتضرّرين منها، إن اللحظة الراهنة ليست متعلّقة بشخصي، ليست متعلّقة بحسني مبارك، وإنما بات الأمر متعلّقًا بمصر في حاضرها ومستقبل أبنائها.. لقد كنت شابًا مثل شباب مصر الآن، عندما تعلّمت شرف العسكرية المصرية والولاء للوطن والتضحية من أجله. أفنيت عمري دفاعًا عن أرضه وسيادته، شهدت حروبه بهزائمها وانتصاراتها، عشت أيام الانكسار والاحتلال وأيام العبور والنصر والتحرير. أسعد أيّام حياتي يوم رفعت علم مصر فوق سيناء. واجهت الموت مرّات عديدة طيارًا وفي أديس أبابا وغير ذلك كثير. لم أخضع يومًا لضغوط أجنبية أو إملاءات. حافظت على السلام. عملت من أجل أمن مصر واستقرارها، اجتهدت من أجل نهضتها، لم أسع يوما لسلطة أو شعبية زائفة، أثق أن الأغلبية الكاسحة من أبناء الشعب يعرفون من هو حسني مبارك، ويحزّ في نفسي ما ألاقيه اليوم من بعض بني وطني".

انتهى الخطاب، وكلّكم يعرف كيف انتهت الحكاية، وانتقل البرنامج الأكثر مشاهدة في أقطار الوطن العربي إلى بقية البلدان وإن لم تتحقّق فيها النهايات كما في النسخة الأولى.

يمشي محمود وهو يضع يده على كتف ابنه على طول شارع، ملامح محمود كلّها فخر واعتزاز بهذا الولد الذي يذهب إلى المدرسة عكس ما عاشه أبوه.

محمود: درسوا لك إيه في المدرسة النهار ده يا عبد الله؟

عبد الله: تاريخ.

محمود: الهرم وأبو الهول يعني؟

عبد الله: لا. الثورة.

محمود: الثورة؟ يا نهار أزرق. لحقوا يكتبوها ويدرسوها لك امتى؟

عبد الله: الثورة بتاعت زمان.

محمود: آه.

يمرّان أمام محلّ للتصوير.

محمود: المحل ده مكتوب عليه إيه؟

عبد الله: استوديو ناجي للألوان الطبيعية.

محمود: ناجي مين يا واد؟ صاحبه اسمه عباس. استوديو عباس للألوان الطبيعية.

عبد الله: إيلي تشوفو يابا.

هذا بالضبط ما حاول المخرج يسري نصر الله تطبيقه في فيلمه (بعد الموقعة - 2012)، الذي اتخذ من موقعة الجمل خلفية درامية له حيث انتصر الموقف الإيديولوجي على الإبداع السينمائي، وربّما كان للإنتاج المشترك مع مؤسّسات فرنسية يد في الشكل النهائي للفيلم وما احتواه.

فمع المشهد الافتتاحي الذي أدرج صور الواقعة الحقيقية، أدخلنا المخرج في أتون تموقع واصطفاف إيديولوجيين، جعلاه يحاول طوال فيلمه مسك العصا من الوسط دون قدرة على الجهر بموقف واضح من الأحداث وما تلاها، خصوصًا ما تعلّق منها بـ "المهاجمين" من أبناء نزلة السمّان و"فلول" النظام السابق المتّهمين بالوقوف وراء تجييش الخيالة والجمّالة البسطاء.


وبالرغم من كل ذلك لم يخل الفيلم من حسّ حرفي عال، كرّس مكانة يسري نصر الله كمخرج سينمائي متمكّن من أدواته الإبداعية. ففي مشهد الولدان (أبناء محمود) وهما يؤدّيان لعبة الحصان وراكبه، لخص المخرج علاقة السلطة بالشعب في أنظمة الاستبداد العربية بعد "الثورة" وما قبلها.

فالشعب في أحسن الأحوال أحصنة طراودة يستثمرها النظام حسب احتياجاته يقودها حيث يشاء ولا تجد عن الانصياع له بديلًا. وقد كان واضحًا كيف أن هذه الشعوب تصطنع لها سلطانًا تنسج عنه الروايات والأساطير لـ"تفوض" له أمر قيادتها ولو كان إلى القاع، ورقته الرابحة في ذلك كونه "رمزًا" لقوّة منظمة تعرف كيف تلاعب بقية "القوى" الموجودة على الأرض استقطابًا وإقصاءً.

"الخيّالة" في فيلم يسري نصر الله، مجرّد "بيادق" تجلس على قارعة الطريق/ البلد، وتستجدي دورًا ولو بسيطًا يسمح لها بالعيش في حدّه الأدنى. وفي غياب الإشارة تقضي وقتها في التسابق مع اللاشيء والرهان على علبة سجائر مستوردة يشتركون في تدخينها في النهاية وعيونهم شاخصة إلى الهرم، رمزًا لتاريخ قيل إنه مجيد على هامش معيش يومي قاس، كرّسه الإقصاء في سابق الثورة وتاليها. في السابق أقامت الدولة جدارًا فاصلًا بين نزلة السمان والأماكن الأثرية/ وجه مصر أمام العالم المتحضّر. وفي التالي جدار نفسي جعل سكان نزلة السمّان منبوذين من طرف "الثوّار الجدد"، يحمّلونهم سوء فعلة بعض منهم في موقعة الثاني من فبراير 2011.


أما الخيول، بما تمثله في الثقافة العربية من رمز للعزّة والسمو، فهي في الفيلم إمّا تتضور جوعًا حتى تموت في نزلة السمّان في انتظار دعم علف قد يأتي أو لا يأتي، أو تتراقص في الموالد والاحتفالات. وهي في كلتا الحالتين مجرّد حيوانات مسيّرة، كأصحابها، والكفيل نفسه الحاج عبد الله، أحد رموز زمن سابق يأبى إلا أن يستمرّ في تصدر الصورة ولو في الخفاء، متحكمًا في رقعة الشطرنج في انتظار العودة إلى الواجهة في اليوم الموعود. هم مجرّد قطع غيار وأدوات تستبدل حسب الحاجة، أما الاستغلال فلا يزال ذاته في السياسة والاقتصاد وعلى مستوى المكبوتات الجنسية الخفي منها والظاهر.

إعادة كتابة تاريخ 25 يناير والموقعة وما بعدهما، انطلق منذ اليوم الأوّل لتخلي مبارك على الحكم وتسليمه للمجلس العسكري. وكانت المعارك السياسية المختلقة التي أدّت برفقاء الميدان إلى الإجهاد في معركة اصطفاف إيديولوجي قاتلة، بحشد إعلامي غير مسبوق حاول "تزوير" الحقائق بالطريقة ذاتها وباليسر نفسه الذي تحوّل فيه (استوديو ناجي للألوان الطبيعية) إلى (استوديو عبّاس للألوان الطبيعية)، الأثر الأهمّ على مسار ثورة ابتدأت "نظيفة" قبل أن تمتد لها أيادي "العابثين" و"ايلي تشوفو يابا ".

وعلى طول دقائق الفيلم بدا أهل نزلة السمان، ومعهم أبناء مصر، مسيّرون إلى مستقبلهم المرسوم يؤدّون الأدوار كما سُطرت وإن حاولوا التمرّد بين الحين والآخر كان الإقصاء من العطايا مصيرهم أو محاولات الإقصاء من الحياة إنذارًا لهم.

في فيلم (مجانينو - 1993) للمخرج عصام الشمّاع، يدخل صبحي، ذو التوجّهات الدينية، ومعه صبي العالمة على الدكتور آدم ومأمور المستشفى حلمي والمناضل الشيوعي السابق بهنس، بعد أن انقلبت أحوال مستشفى المجانين رأسًا على عقب، وصار الدكاترة أكثر جنونًا من النزلاء، باستثناء آدم "العاقل" الوحيد المتبقّي. كان حلمي وآدم يناقشان أولويات "الحكم الجديد" بعد أن أعلنوا الثورة على قوانين المستشفى وحوّلوها إلى دولة مستقلة.

صبحي: السلام عليكم يا أخ آدم. أريد أن أشارك في الحكم.

صبي العالمة: إذا شارك صبحي أنا كمان حشارك في الحكم.

صبحي: اخرس يا صبي العالمة. أنا عايز أشارك في الحكم يا أخ آدم، ولا تنسى أننا إخوان سلاح وضربنا عدونا مع بعض بالمقاليع وآن الأوان أن نقتسم السلطة.

صبي العالمة: وأنا كمان.

صبحي: اخرس يا فاسق يا زنديق.

آدم: انت عاوز ايه يا صبحي؟

صبحي: عايز انتخابات وتبقى انت ايلي تحت وأنا ايلي فوق. ده شرع الله يا أخ آدم ومعي برنامج.

صبي العالمة: أنا كمان عندي بروغرام يهوس. نجيب كم مزّة كده من عنبر الحريم يرقصوا ونجيب العساكر ايلي برّه يتفرّجوا ويدفعوا.

حلمي: يا جلال! (أحد أتباع حلمي).

جلال: أوامرك يا زعيم.

حلمي: خدهم يا جلال.

آدم: فيه إيه يا حلمي؟

حلمي: لازم نحمي الثورة من أعدائها.

آدم: مفيش حدّ حيدخل الزنازين.

صبحي: شاطر يا آدم. مادام مش حتحبسنا تبقى شاطر. نبدا الانتخابات بقا؟

آدم: لأ. فيه مليون حاجة لازم تتعمل. الدوا حينفذ والأكل كمان، ولا نسيتو أنكم عيانين؟ حتى ايلي طلطشوا برشام حلمي لازم يتعالجوا قبل الرأي والرأي الآخر.

صبحي: أنا معترض.

صبي العالمة: وأنا كمان معترض.

صبحي: اخرس يا صبي العالمة. وبحذركم كلّكم، أوعوا تنسوا ربنا أحسن ربنا ينساكم.

يخرجان.

حلمي: متستهترش بيهم يا زعيم. لازم الزعيم يكون قلبه من حديد، يدّه متتهزش وهي بتذبح والمذبوح ميطلعلوش صوت.

آدم: المهم عندي العيانين يا حلمي.

بهنس (الذي لم ينطق كلمة طوال الحوار): طيّب، ومرام؟

آدم: حخرّجها.

ينطلق بهنس فرحًا.

مرام هي مديرة المستشفى التي فتنت بهنس بجمالها واعتقلها حلمي مع أوّل إشراقة للثورة قبل أن يتزوّجها بعد ذلك باختيار ورغبة منها.

بهنس لا يزال "مؤمنًا" بالشيوعية، وإن كانت له قراءة انتهازية لها، فبينما كان آدم وأحد نزلاء المستشفى يستصلحون أرض الساحة لزراعتها، يصل بهنس إلى حيث الحدث.

بهنس: إنت خيالك واسع آوي يا دكتور. بتحارب طواحين الهوا.

آدم: مش إنت اشتراكي يا بهنس بتاع العمال والفلاحين؟

بهنس: طبعًا، والاشتراكية جاية يعني جاية.

آدم: طب متعمل ثورة يا أخي بإيدك وتيجي تشتغل معانا.

بهنس: لأ. أنا كادر سياسي منظّم. ليا دور طليعي في قيادة الشعب لكن لا أمسك فاس ولا مكنة.

المساهمون