تجريم حرية الرأي.. تهمتان "ملكيتان" لترهيب المعارضين في فلسطين

تجريم حرية الرأي.. تهمتان "ملكيتان" لترهيب المعارضين في فلسطين

15 مارس 2020
الناشط عيسى عمرو يلاحق قضائياً عبر تهم فضفاضة (Getty)
+ الخط -
ينتظر الناشط الفلسطيني عيسى عمرو، جلسة محاكمته المقرر انعقادها في 20 أبريل/نيسان المقبل أمام محكمة صلح الخليل جنوبي الضفة الغربية، إذ اعتقله جهاز الأمن الوقائي في سبتمبر/أيلول عام 2017، بعد اتهامه بـ"إطالة اللسان على مقامات عليا" و"إثارة نعرات طائفية"، على خلفية كتابته لمنشورين على صفحته في موقع "فيسبوك"، انتقد فيهما غياب تلفزيون فلسطين عن تغطية فعاليات ضد الاستيطان في الخليل، وتعرض صحافيين للاعتقال.

وبعد 4 أيام من التحقيق مع عمرو جرى إخلاء سبيله، مقابل كفالة مالية قدرها 1000 دينار أردني (1410 دولارات أميركية)، كما قال لـ"العربي الجديد".

ما وقع للناشط عمرو نموذج عن ظاهرة "اعتقال المنتقدين والمعارضين السلميين تعسفيا، إذ أوقفت قوات الأمن الوقائي والشرطة الفلسطينية 1609 أشخاص، بتهمتي الإساءة إلى مقامات عليا وإثارة نعرات طائفية" خلال الفترة من يناير/كانون الثاني 2018 وحتى مارس/آذار 2019، ما يتسبب في تجريم المعارضة السلمية فعليا، وفق ما وثقه تقرير صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش" في التاسع من مايو/أيار الماضي.

وتقر وزارة الداخلية الفلسطينية بأن جهاز الأمن الوقائي اعتقل 1417 شخصاً من أصل 1730 شخصا أوقفتهم الأجهزة الأمنية التابعة لها، بتهمة إطالة اللسان (الإساءة) إلى مقامات عليا أو إثارة "النعرات المذهبية"، بحسب ما جاء في تقرير وحدة الديمقراطية وحقوق الإنسان التابعة لوزارة الداخلية، والصادر في 21 أبريل 2019 والذي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منه، والذي تضمن ردا على رسالة منظمة "هيومن رايتس ووتش" الموجهة للداخلية في السابع من الشهر ذاته، للاستفسار عن واقع الاعتقالات والمحتجزين في فلسطين.

ومن بين المعتقلين أوقف جهاز الشرطة 195 شخصاً، بينما اعتقل جهاز المخابرات العامة 116 شخصاً، والاستخبارات العسكرية شخصين، بحسب المصدر السابق.



تهمة من لا تهمة له

تتناسب الأرقام الصادرة عن وزارة الداخلية مع نهج السلطة الفلسطينية المستمر منذ 25 عاماً، وفق ما يقوله مدير مكتب منظمة هيومن رايتس ووتش في فلسطين، عمر شاكر لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن أغلبية هؤلاء الأشخاص يظلون رهن الاحتجاز لمدة شهر على الأكثر، ثم يتم الإفراج عنهم دون إحالتهم للمحاكم، استناداً للقضايا التي تابعتها المنظمة، وهو ما حدث مع الناشط الثلاثيني محمد غنام (اسم مستعار، خشية من توقيفه ومساءلته مجددا)، والذي وجهت له تهمة الإساءة لمقامات عليا لدى احتجازه 8 مرات، من أصل 20 مرة أوقف فيها، خلال الفترة بين عامي 2009 و2019، ولم تتم إحالته إلى القضاء، لعدم وجود أي إثبات يستند إليه المدعي العام في اتهامه كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا أنه قضى خلال مرات الاحتجاز نحو 80 يوماً في سجون السلطة الفلسطينية ومراكز توقيفها، وفي كل مرة يجري اعتقاله لأيام معدودة يتعرض فيها للاستجواب والترهيب.

"وتهدف الاعتقالات إلى تخويف وترهيب المعارضين والمحتجين بشكل سلمي، وإرسال رسائل تحذيرية لآخرين في حال انتهجوا ذات النهج، وخاصة أن بعض المحتجزين عانوا من سوء معاملة وتعذيب" كما يقول شاكر. ويتفق معه ماجد العاروري مدير عام الهيئة الأهلية لاستقلال القضاء وسيادة القانون "استقلال" (مؤسسة أهلية لدعم الحريات) والذي قال لـ"العربي الجديد": "تستخدم التهمتان لتكميم الأفواه، وملاحقة النشطاء والصحافيين والنقابيين، وفق سياسة ممنهجة ومدروسة"، مضيفا أن تهمة إطالة اللسان (الإساءة إلى مقامات عليا) يمكن وصفها بأنها "تهمة من لا تهمة له".

مخالفة دستورية

تستند السلطة الفلسطينية في اعتقال المواطنين بتهمة الإساءة إلى مقامات عليا إلى قانون العقوبات الأردني رقم 16 لعام 1960 النافذ في الضفة الغربية، وتحديدا الفقرة 1 من المادة 195 التي تنص على أنه "يعاقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات كل من (أ) ثبتت جرأته بإطالة اللسان على جلالة الملك"، بينما تستند السلطة إلى المادة 150 من قانون العقوبات الأردني في حالة تهمة إثارة النعرات المذهبية أو الطائفية، والتي تنص على أن "كل كتابة وكل خطاب أو عمل يقصد منه أو ينتج عنه إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة يعاقب عليه بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، ولا تزيد على ثلاث سنوات، وبغرامة لا تزيد على 200 دينار (كانت 50 دينارا وجرى زيادتها في أغسطس/آب 2017 إلى المبلغ الحالي)".

ويوضح العاروري أن صياغة المادة السابقة يفترض أنها تهدف إلى حماية الملك وحياته الخاصة في الأنظمة التي لا يتدخل بها في الشأن العام، مضيفا: "الأمر موجود في غالبية الأنظمة الملكية بالعالم".

لكن خصوصية تلك المادة المتعلقة بالنظام الملكي الأردني، يجعلها لا تنطبق على الحالة الفلسطينية وفق ما يؤكده المحامي فريد الأطرش مدير منطقة الجنوب في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (مؤسسة مجتمع مدني).

تستند السلطة الفلسطينية إلى مادتين قانويتين غير دستوريتين، أحدهما يفترض أنها تهدف إلى حماية الملك وحياته الخاصة

وتشوب المادة 195 من قانون العقوبات الأردني، والذي صدر قبل ولادة السلطة الفلسطينية، شبهة عدم الدستورية، لتناقضها مع جوهر وروح القانون الأساسي الفلسطيني (الدستور)، وقانون الإجراءات الجزائية رقم 3 لسنة 2001 (ينظم عمل القضاء في فلسطين) وفق ما يقوله المحامي ابراهيم البرغوثي مدير المركز الفلسطيني لاستقلال القضاء والمحاماة "مساواة" لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن القاعدة القانونية يجب أن تكون عامة وواضحة ومحددة المعايير، وتمتلك عناصر تبين الفعل الذي يمثل الجريمة وهو ما لا يتوفر في هذه الحالة.

وجاء القانون الأساسي الفلسطيني وقانون الإجراءات الجزائية الساري، ليلغي حكماً وضمناً نص المادة 195، نظرا لكونها تمثل تناقضاً جوهرياً مع الدستور الفلسطيني في مادته الخامسة، والتي تنص على أن "نظام الحكم في فلسطين ديمقراطي نيابي يعتمد على التعددية والحزبية، وينتخب رئيس السلطة الوطنية انتخابا مباشرا من قبل الشعب"، وهو ما يتناقض مع المادة 28 من الدستور الأردني التي تعرف عرش المملكة الأردنية الهاشمية بأنه "وراثي في أسرة الملك عبد الله بن الحسين"، وبالتالي فإن السياق القانوني الفلسطيني يعتبر الرئيس موظفاً عاماً، أي أن حق نقد المواطنين للرئيس مكفول دستورياً، كما يوضح المحامي البرغوثي.


محاصرة حق النقد

تلقت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" (تأسست بمرسوم رئاسي) 57 شكوى، بواقع 37 في الضفة الغربية و20 في غزة عام 2018، تضمنت 61 ادعاء بانتهاك الحقّ في الرأي والتعبير، بحسب التقرير الرابع والعشرين الصادر عن المنظمة عام 2018.

وتصدّر جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية الجهات التي وردت عليها شكاوى بشأن انتهاك حرية الرأي والتعبير بواقع 18 شكوى، فيما توزعت 8 شكاوى على وزارة الداخلية، و6 على جهاز الشرطة، وشكوى واحدة على المخابرات العامة، وشكوى على جهاز الاستخبارات العسكرية، وشكوى ضد النيابة العامة وشكوى واحدة على وزارة التربية والتعليم، وواحدة على جامعة النجاح الوطنية وفقا للتقرير ذاته.

وتتسع نقاط التجريم في قانون العقوبات الأردني النافذ في الضفة الغربية، ما يشكل قيداً على حرية الرأي والتعبير وحصارا لحق النقد عبر العبارات الغامضة والفضفاضة الواردة في نصوصه، والمغالاة في العقوبات السالبة للحرية بحسب تقرير ديوان المظالم، وهو ما يتفق معه الحقوقي البرغوثي، مضيفا أن تهمة الإساءة إلى مقامات عليا فضفاضة وغير مقيدة ولم يُتفق على تعريفها بشكل جمعي، وبالتالي يخضع تفسيرها لمصالح المفسرين وهو ما يؤكده العاروري، متهما السلطة الفلسطينية باستخدام مصطلحات فضفاضة غير معرفة بشكل واضح في القانون لاستهداف المنتقدين.

تناقض مع الالتزامات الدولية

تنص الفقرة الثانية من المادة 19 في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي وقعت عليه السلطة الفلسطينية في عام 2014، على أنه "لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها".

وتواصل "العربي الجديد" مع وحدة الديموقراطية وحقوق الانسان التابعة لوزارة الداخلية، عبر البريد الإلكتروني، ثم جرى تسليم كتاب رسمي واتصالات متكررة برئيسة الوحدة هيثم عرار، من أجل الحصول على رد من وزارة الداخلية حول ما جاء في التحقيق، لكن بلا رد، رغم الوعود المتكررة من عرار بالحديث لـ"العربي الجديد"، ثم اعتذرت عن ذلك في آخر مكالمة هاتفية بتاريخ 15 يناير/كانون الثاني الماضي.

ويدرك المعنيون في داخل الأوساط القانونية والأجهزة الأمنية أنه لا سند قانونيا لتهمة الإساءة لمقامات عليا، لذلك يحصل المتهمون بها على البراءة عندما يحالون إلى القضاء، بحسب العاروري، وهو ما حدث مع أستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية عبد الستار قاسم، الذي برأته محكمة الصلح في مدينة نابلس شمالي الضفة في مارس عام 2019 من تهمة إطالة اللسان على خلفية مقابلة تلفزيونية أجريت معه في فضائية القدس في يناير من عام 2016، سرد فيها مواد من القانون الأساسي الفلسطيني، وأخرى من القانون الثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال حديثه عن انتهاء فترة حكم الرئيس محمود عباس، لكن جرى اعتقاله، ثم أحيل إلى القضاء بدعوى من الحق العام وفق قوله.

واستندت المحكمة في قرارها إلى المادة 19 من القانون الأساسي الفلسطيني، التي تنص على أنه "لا مساس بحرية الرأي، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير أو الفن مع مراعاة أحكام القانون"، بحسب حيثيات القضية التي اطلعت عليها "العربي الجديد"، وعلى الرغم من أن النيابة العامة عادت واستأنفت على القرار السابق، لكن محكمة الاستئناف أيدت الحكم، بحسب قاسم.