هجرة أطباء إيران... نزيف مالي وبشري لصالح أميركا وأوروبا

تعتمد السياحة العلاجية في إيران على دول الجوار
14 مايو 2023
+ الخط -

تفقد إيران نخبها الطبية لصالح أميركا والدول الغربية التي تخوض معها صراعاً على مستويات أخرى، وبعدما تنفق البلاد ما يصل إلى 45 ألف دولار من أجل تعليم وتأهيل المتخصصين، يغادرون بحثاً عن مستقبل أفضل وحياة بلا عقوبات.

- يحذر المتحدث باسم المجلس الطبي الإيراني، رضا لاري بور، من أن طهران سيكون عليها أن "تشحذ الأطباء" بعد ثلاث سنوات في ظل العزوف عن خوض اختبار دورات الأخصائيين والاستشاريين، ولا يتوقف الأمر على ما سبق كما يقول الطبيب رضا حسيني أخصائي الأعصاب الذي غادر إيران مهاجرا إلى بريطانيا، بحثا عن دخل أفضل وحياة أكثر جودة لأسرته بالإضافة إلى فرص علمية أفضل مثل المشاركة في المؤتمرات الدولية والمناخ الداعم للبحث العلمي.

سافر حسيني  قبل 8 سنوات من أجل الحصول على دورة تدريبية تؤهله حتى يكون استشاريا في تخصصه، لكنه قرّر البقاء، بعدما عانى من تراجع جودة الحياة في إيران بعد هبوط قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار والتراجع الاقتصادي ما يهدد مستقبل أطفاله، قائلا :"ظروف العمل تدهورت بالمقارنة مع ما كان متوفرا قبل سنوات، وصار العثور على فرص عمل مناسبة للأطباء في المدن الكبرى صعبا بسبب رفض السلطات منحهم التراخيص لدفعهم إلى التوجه نحو المناطق النائية"، غير أن هذه المناطق كما يشرح الطبيب حسيني لا تتمتع بمعايير جيدة للحياة وغير ملائمة لمعيشة أسرهم.

وجهات رئيسية

يبلغ متوسط تعرفة المعاينات الطبية في أوروبا ما بين 150 يورو و200 يورو، في المقابل تتراجع قيمة التعرفة بشكل مستمر في إيران في ضوء تدهور قيمة الريال مقابل الدولار، كما يقول حسيني مضيفا أن متوسط دخل الأخصائي في أوروبا أعلى من إيران بـ 40 مرة، ما يدفع الطبيب إلى مزيد من العمل لتغطية تكاليف الحياة، الأمر الذي يتسبب بإرهاقه الشديد ويؤدي إلى استهلاك معظم وقته ما يمنعه من مواكبة آخر المستجدات التعليمية والتدريبية الطبية.

وتعد الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، الوجهات الرئيسية المستقبلة للأطباء الإيرانيين على الترتيب، حسب بيانات خاصة حصل عليها "العربي الجديد" من المرصد الإيراني للهجرة.

أميركا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وجهات رئيسية مستقبلة للأطباء الإيرانيين

واللافت أن 29 ألف طبيب إيراني، عملوا في القطاع الصحي والعلاجي الأميركي حتى عام 2018، بينما تشكل سلطنة عمان وجهة جديدة لهجرة الطواقم الطبية والتمريضية، إذ كشفت صحيفة "دنياي اقتصاد" الخاصة في 11 سبتمبر/أيلول 2022 أن 30 ألفا من الطواقم العلاجية تقدموا خلال العام الماضي بطلبات للحصول على شهادة "حسن السلوك" للهجرة إلى عُمان.

ويبلغ عدد الأطباء 170 ألف طبيب بشري، كما يقول الدكتور علي سالاريان نائب رئيس منظمة الطب الإيرانية للشؤون التقنية والرقابية (مؤسسة نقابية) لـ"العربي الجديد".

ويقدر سالاريان أن 130 ألفا من أصل 170 ألف طبيب يعملون داخل البلاد، مشيرا إلى أن بيانات منظمة الصحة العالمية الصادرة عام 2020 تقدر نسبة الأطباء إلى عدد السكان بـ 15 طبيبا لكل عشرة آلاف نسمة، غير أن عضو لجنة الصحة والعلاج البرلمانية، فاطمة محمد بيغي، قالت لوكالة "تسنيم" المحافظة، في 22 يناير/كانون الثاني 2022 إن نسبة الأطباء الأخصائيين تبلغ 5 لكل 10 آلاف شخص، مشيرة إلى أن ذلك يشكل ثلث المعيار العالمي. 

وبلغ عدد الأطباء الأخصائيين 39 ألفا و398 طبيبا من بينهم 4603 أخصائيين باطنيين، و4544 أخصائي للنساء والولادة، و3920 أخصائي أطفال، و3327 أخصائي تخدير، و3243 أخصائي الجراحة العامة، فضلا عن 2054 أخصائي في القلب، و1709 أخصائي في جراحة العظام، و1699 أخصائي في الطب النفسي، و1694 أخصائي في طب العيون وفق ما أعلنه المتحدث باسم وزارة الصحة السابق، إيرج حريرجي، في مؤتمر صحافي بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2018.

كيف تراجع دخل الأطباء؟

دفعت المشاكل الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الأميركية منذ عام 2018 بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي وما تبعه من تراجع مستمر لقيمة العملة الوطنية في السنوات الأربع الأخيرة بنسبة 1566 في المائة، الأطباء وخاصة الشباب إلى مغادرة البلاد، بحسب سالاريان، والذي قال: "الأطباء يتلقون عروضا مغرية من الدول الأخرى خاصة أن المستوى المهني والعلمي عال جدا ويسهل إدماجهم في القطاع الصحي".

ويكلف طالب الطب ما بين مليارين إلى مليارين وخمسمائة مليون تومان (45 إلى 55 ألف دولار) كي يتخرج بعد سبع سنوات كما أوضح أمين مجلس جامعات العلوم الطبية التابع لوزارة الصحة، الدكتور جليل كوهبايه زاده في 5 ديسمبر 2021 في تصريحات لوكالة "مهر" شبه الرسمية.

يكلف تعليم وتأهيل الطبيب الإيراني ما بين 45 و55 ألف دولار

وتكبد هجرة الأطباء البلاد خسائر كبيرة في ضوء ما سبق، إذ تكشف بيانات المرصد الإيراني، عن هجرة 4 آلاف طبيب خلال السنوات الثلاث الأخيرة، كما أن نصف الأطباء يرغبون في الهجرة، بينما تقدر بيانات منشورة في صحيفة "دنياي اقتصاد"، في 11 سبتمبر/أيلول 2022 أن 16 ألف طبيب بشري هاجروا خلال السنوات الأربع الأخيرة، لافتة إلى هجرة 160 أخصائي في القلب خلال عام 2021.

ويختلف دخل الأطباء حسب مكان العمل ونوع التوظيف، إذ يقول سالاريان إن طبيبا في مستشفى حكومي يتقاضى شهريا نحو 15 مليون تومان (300 دولار بعد تراجع العملة نحو 100 في المائة)، مضيفا أن دخل الأطباء الذين يمتلكون عيادة خاصة أيضا متفاوت، ويصل المعدل إلى أكثر من 100 مليون تومان (2500 دولار أميركي)، محددا متوسط دخل الأطباء بين 20 و30 مليون تومان (450 إلى 650 دولارا).

لكن رئيس مستشفى "ابن سينا" الأهلي غربي طهران، الدكتور آرش أنيسيان، يرى أن "العرض والطلب" هو السبب الرئيس وراء هجرة الأطباء، قائلا في مقابلة مع "العربي الجديد" :"الطلب المتصاعد في الدول الجارة، مثل سلطنة عمان إلى جانب نقص الأطباء في أوروبا ومكانة شهادات الجامعات الطبية، خلقت فرصا للأطباء الإيرانيين في الخارج للحصول على دخل ورخاء اجتماعي أفضل". 

ويلفت أنيسيان إلى عوامل أخرى تحفز الطبيب على الهجرة، مثل الإهمال الذي يواجهه من الهياكل الحكومية، فضلا عن المستوى العالي للدخل السنوي للطبيب في الخارج في مقابل تدنيه في الداخل، ويقول أنيسيان إن دخل الطبيب في بعض الدول الجارة يمكّنه من شراء بيت خلال سنوات قليلة، إذ يصل دخل طبيب في سلطنة عمان التي تشكل وجهة لهجرة الأطباء الإيرانيين أحيانا إلى أكثر من 100 ألف دولار سنويا، لكن الطبيب المحلي كما يقول رئيس مستشفى "ابن سينا" "لا يتمكن من شراء بيت حتى بعد 15 عاما من العمل".

ويلفت الطبيب الإيراني إلى أن 4 آلاف طبيب تقدموا بطلب للحصول على "شهادة نزاهة مهنية" (good standing) (تطلبها جهات العمل في الخارج) من منظمة الطب الإيرانية خلال العامين الأخيرين، نصفهم أخصائيون واستشاريون.

خسائر بشرية ومالية 

تفقد إيران نخبها الصحية كما يقول رئيس مستشفى "ابن سينا" كما تُهدر النفقات الحكومية على تعليمهم فضلا عن أن هجرة العقول الطبية تتسبب بتراجع السياحة الصحية الوافدة، إذ سجلت طهران مليونا و100 ألف سائح أجنبي خلال عام 2021 أنفقوا ملياري دولار على الأغراض العلاجية، وسجلت بيانات مليون منهم على منصة سباس الإلكترونية (تتبع وزارة الصحة) بحسب ما قاله رئيس قسم السياحة العلاجية  في وزارة الصحة محمد رضا ترجمان، في مؤتمر للسياحة العلاجية، استضافته جامعة طهران في 20 سبتمبر/أيلول 2022".

ويقبل العراقيون والأفغان والعمانيون والأذربيجانيون والبحرينيون والقطريون على خدمات التجميل، وزرع الأعضاء، وعلاج الكبد والعيون والعقم، حسب تصريحات لأمين المجلس الاستراتيجي للسياحة العلاجية التابع لوزارة الصحة، دياكو عباسي، أوردتها وكالة "إيسنا" الحكومية في 28 ديسمبر 2022. 

الصورة
أطباء إيران يغادرون بحثاً عن مستقبل أفضل

في الوقت الراهن يعمل 5 % من الأطباء الأخصائيين على الهجرة وهو أمر على المدى القصير لا يترك تأثيرا سلبيا كبيرا، كما يقول رئيس مستشفى "ابن سينا" لـ"العربي الجديد"، "لكن اذا استمر الوضع على هذا المنوال فبعد خمس سنوات سنضطر إلى إيفاد مرضانا إلى الخارج لتلقي العلاج".

كما ستفاقم هجرة الأطباء مشكلة تراجع أعدادهم في المناطق النائية وفق الدكتور أنيسيان والذي يضيف أن هذا النقص في المدن الكبرى مثل طهران سيظهر بعد سنوات، لكنه في المدن الصغرى مثل خرم درة في محافظة زنجان غربي إيران، يظهر بسرعة نتيجة النقص الذي تواجهه حاليا.

أما نقص الاطباء في المناطق النائية مثل محافظة سيستان وبلوشستان، المرشح للارتفاع نتيجة موجة الهجرة، فناجم عن "توزيع غير عادل" للأطباء على مستوى البلاد، حسب ما يقوله عضو لجنة الصحة بالبرلمان، محمد علي محسني بندبي لـ"العربي الجديد"، عازيا السبب إلى غياب "دوافع كافية" لدى الأطباء للتوجه إلى تلك المناطق بسبب فروق كبيرة في الدخل ونوعية الحياة بين المدن الكبرى والمناطق الفقيرة، وهو ما يدفع بعضهم لرفض مزاولة العمل الطبي فيها والهجرة إلى الخارج.

غير أن إيران في الوقت الراهن بشكل عام لا تواجه نقصا في أعداد الأطباء، وفق تصريح الدكتور رضا لاري بور، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن ثمة مخاوف بشأن نقص الأطباء الأخصائيين والاستشاريين مستقبلا وهو ما يبدو في تراجع الإقبال على دورات الترقية وأحد أسبابه هجرة أطباء راغبين في خوض هذه الدورات بالخارج، ويضيف لاري بورأنه توجد مخاوف متزايدة بشأن نقص الأطباء في تخصصات طب التخدير والطوارئ والأطفال وجراحة الأطفال وجراحة القلب.

ويؤكد في حديثه مع "العربي الجديد" أن الاحتفاظ بالقوة البشرية الطبية في الداخل والحؤول دون هجرتها بحاجة إلى "محفزات لازمة"، داعيا وزارة الصحة إلى تقديم "إمكانيات وتسهيلات رفاهية" بالمناطق الفقيرة لتشجيع الأطباء على التوجه إليها، مثل السكن ورفع تعرفة المعاينة وتقديم قروض بنكية مغرية.

كما أن التراجع المستمر للمشاركين من الفرع العلمي في امتحان دخول الجامعة السنوي، يمكن أن يفاقم الظاهرة، إذ إن العدد سجل تراجعا العام الماضي بنسبة 4 في المائة ليصل إلى 574 ألفا و751 حسب ما نقلت صحيفة "همشهري" التابعة لبلدية طهران، في عددها الصادر 22 أغسطس/آب 2022 عن علي باقر طاهري نيا رئيس مؤسسة البحوث والتخطيط للتعليم العالي التابعة لوزارة التعليم العالي.

وفي خطوة لمواجهة النقص المستقبلي للأطباء، رفع المجلس الأعلى للثورة الثقافية الحكومي (منوط به دستوريا وضع السياسات التعليمية والثقافية في البلاد)، بموجب قرار صادر في تاريخ 13 يناير 2022 العدد المقبول بفروع الطب بجامعات وكليات الطب الحكومية والخاصة إلى 9600 سنويا، حسب ما نشرته وكالة "إرنا" الحكومية ليلتحق هؤلاء بـ 51 جامعة حكومية للعلوم الطبية و16 كلية طب حكومية، فضلا عن 96 جامعة خاصة للعلوم الطبية.