الهروب إلى الألم... الإفراط في تناول المسكنات يدمر كلى المصريين

الهروب إلى الألم... الإفراط في تناول المسكنات يدمر كلى المصريين

18 ديسمبر 2023
تخفف المسكنات الألم دون علاج السبب الأصلي (Getty)
+ الخط -

يكشف التحقيق آثار إفراط المصريين في تناول المسكنات غير السيترويدية، هروبا من ألم أصغر ولو بشكل مؤقت إلى آخر أكبر يستمر معهم حتى النهاية، إذ يعانون من فشل كلوي كان يمكن تجنبه في حال تحذير الأطباء والصيادلة إياهم.

- تخضع العشرينية المصرية أميرة مسعد لجلسة غسل كلوي 3 مرات أسبوعيا، منذ تشخيصها بالفشل الكلوي المزمن، بعد نكسة صحية تعرضت لها وأدخلت على أثرها إلى مستشفى مبرة المعادي في القاهرة بتاريخ 7 سبتمبر/أيلول 2022، بحسب تقريرها الطبي.

كانت أميرة تعمل في مصنع للأكياس البلاستيكية في حي المعادي جنوبي العاصمة، واعتادت تناول حبتين يوميا من مسكن بروفين (أيبو بروفين) القوي ويعد من مضادات الالتهاب غير الستيرويدية، في محاولة لإسكات الصداع المستمر الذي تعاني منه بسبب صوت الآلات المرتفع في المصنع، بحسب شقيقتها ولاء مسعد، والتي تروي لـ"العربي الجديد" أن "أميرة لم تكن تحتمل الصداع وسرعان ما تلجأ للمسكن، ما أثر على كليتيها بحسب طبيبها المشرف على علاجها".

الصورة
تقرير أميرة
تسبب إفراط أميرة مسعد باستخدام المسكنات في اعتلال الكلى (العربي الجديد)

ويفسر الدكتور عبد الله محمد رجب، أخصائي أمراض الكلى ورئيس قسم الكلى في المعهد الطبي القومي التخصصي في دمنهور شمال مصر، الحالة التي وصلت لها مسعد "بأنها نتيجة متوقعة للإفراط بالمسكنات التي تعتبر مسببا للاعتلال الكلوي، مؤكدًا أن الإصابة بهذه الأضرار لا يحدث بصورة فورية، بل يعتمد ذلك على كميات الجرعات التي تؤخذ بشكل منتظم، وطول المدة الزمنية وقدرة تحمل الجسم، وعلى الرغم من عدم قدرة الأطباء على تحديد فترة الاستخدام التي تشكل خطرا على الكلى، إلا أن الاستخدام لعدة أشهر، سواء بشكل متواصل أو متقطع، يؤدي في بعض الأجسام إلى مثل هذه المضاعفات"، بحسب توضيح رجب، وهو ما حدث مع مسعد و3 حالات أخرى يوثقها التحقيق.

 

حجم الظاهرة

تكشف ورقة بحثية بعنوان "مرض الكلى في مراحله الأخيرة بمحافظة المنيا بصعيد مصر: دراسة وبائية"، نشرت في المكتبة الأميركية للطب التابعة للمركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية في يونيو/حزيران عام 2011، أن 5% من أصل 1356 مريضا بالفشل الكلوي شملتهم الدراسة، وتتراوح أعمارهم بين 13 و46 عاما، أصيبوا بالداء بسبب المسكنات، وهذه الحالة تعرف باعتلال الكلية بالمسكنات، وتشير إلى التلف الذي يصيب الكلى نتيجة الإفراط بتناول دواء مسكن أو مزيج من هذه الأدوية، بحسب توضيح معد الدراسة، أخصائي أمراض الكلى والأستاذ بكلية الطب في جامعة المنيا أسامة المنشاوي، والذي يصف في حديثه لـ"العربي الجديد"، الإفراط في تناول الأدوية المسكنة دون وصفة طبية بأنه "فعل خطير" وله تبعات تشمل فشل وظائف الكبد والكلى، وفقدان التركيز والتشنجات، ومشكلات بالجهاز العصبي مثل النوبات الصرعية المتكررة، وتقرحات المعدة والجهاز الهضمي.

سهولة الشراء وجهل مخاطر المسكنات من عوامل الإفراط في استخدامها

وتعد نزلات البرد والصداع وآلام العظام والمفاصل، أبرز الأسباب التي تدفع المرضى للجوء للمسكنات بدون وصفة طبية، بالإضافة إلى لجوء السيدات لها خلال الدورة الشهرية، بحسب نتائج الدراسة، وهو ما يتطابق مع نتائج استبيان رأي غير قياسي أعدته معدة التحقيق وشارك فيه 203 أشخاص، أجاب 71% منهم بأنهم يتناولون المسكنات دون استشارة الطبيب، ويلجأ إليها 37.8% منهم بسبب الصداع، و18.4% يستخدمونها لتسكين آلام المفاصل، و21.4% منهم يتناولونها بسبب نزلات البرد، ويستخدمها 7.7% بسبب آلام الأسنان.

 

مخاطر مضادات الالتهاب غير الستيرويدية

يرصد الصيدلي محمد فهمي والذي يعمل استشاريا للتسويق الدوائي أن أكثر الأدوية المسكنة رواجا بين المصريين هي الفولتارين والكتافلام والكتافاست، وهي مسكنات للألم ومضادات التهاب غير ستيرويدية NSAIDs، "وهي مجموعة من المسكنات الشائع استخدامها وتعمل على إبطاء إفراز الجسم لبعض الإنزيمات الطبيعية في الجهاز المناعي لدى التعرض لعدوى خارجية أو تلف بعض الأنسجة، وتتمثل فعالية تلك المسكنات في علاجها للأعراض الناتجة عن الألم لكنها لا تعالج السبب الأصلي، ومن أمثلتها الأسبرين والأيبوبروفين"، بحسب مقالة علمية بعنوان (كل ما تريد معرفته حول مضادات الالتهاب غير الستيرويدية)، نشرت على موقع المكتبة الوطنية للطب (أميركية) في الأول من مايو/أيار 2023.

ما سبق يؤكده فهمي، والدكتورة مي حسب الله أستاذة الأمراض الباطنية بجامعة القاهرة ورئيسة الجمعية المصرية لأمراض وزراعة الكلى (غير حكومية)، موضحة أن الإفراط بتناول تلك الأدوية لفترة طويلة يؤثر سلبا على أنسجة وكبيبات الكلى (Glomeruli) وهي تجمعات من الأوعية الدموية الدقيقة يجري من خلالها ترشيح الدم، إذ تعمل الأقراص المسكنة على تقليل مستوى البروستاغلاندينات (Prostaglandins) وهي مركبات دهنية نشطة مشابهة للهرمونات من ناحية عملها كـ "نواقل كيميائية"، ومسؤولة عن الإحساس بالألم، وهذه المادة تفرزها الكلى لتساعدها على توسيع الأوعية الدموية لتسهيل عملية التدفق وتحسين التغذية الدموية، ومع تناول المسكنات يقل إفرازها ما يتسبب في تقليل تدفق الدم وتقل كفاءة الكلى الوظيفية، وتوضح حسب الله أن الفشل الكلوي تتبعه مشاكل صحية عديدة أبرزها ارتفاع نسبة البولينا نتيجة تراكم اليوريا بسبب المواد النيتروجينية الموجودة في الدم والتي تعجز الكلى عن طردها عن طريق البول، بالإضافة إلى ارتفاع الكرياتينين الناتج عن عمليات الأيض في الجسم والذي تتم تصفيته من الدم بواسطة الكلى، مضيفة أن هذه الأعراض قد تكون حادة ومزمنة لدى البعض.

يسبب الإفراط في استعمال المسكنات تدهوراً في وظائف الكلى

وتلفت حسب الله النظر إلى الكلفة الاقتصادية لأمراض قصور وفشل الكلى والتي تتعدى مجرد تكاليف الرعاية الطبية المباشرة من أجور أطباء وتكلفة عقاقير إلى احتمالية إجراء غسل كلوي مدى الحياة أو تحمل تكاليف عملية زراعة كلية في حالات الفشل الكلوي الكامل، وتتحمل وزارة الصحة تكاليف جلسات الغسل بشرط أن يكون للمريض تأمين صحي أو صدر قرار رسمي بعلاجه على نفقة الدولة، وتصل تكاليف الجلسة الواحدة إلى 500 جنيه (16 دولارا)، ويحتاج المريض ثلاث جلسات أسبوعيا أي بإجمالي 6 آلاف جنيه شهريا (194 دولارا)، ويتراوح عدد مرضى الفشل الكلوي الذين يخضعون بشكل دوري لجلسات غسل الكلى بين 70 إلى 75 ألف مريض، وتقول حسب الله أن هؤلاء المرضى في المرحلة النهائية من المراحل الخمس لمرض القصور الكلوي، ووفقا للجمعية المصرية لأمراض وزراعة الكلى تصل نسبة من هم في احتياج للغسل الكلوي إلى 650 حالة لكل مليون شخص بمصر، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالنسبة العالمية.

وتجمع مصادر التحقيق على أن الأسباب الرئيسية وراء هذا الارتفاع هي مرض السكري، وضغط الدم، والإفراط في تناول المسكنات والمضادات الحيوية.

 

عشوائية صرف الأدوية في مصر

يحمّل الصيدلي حاتم البدوي، السكرتير العام للشعبة العامة للصيدليات بالاتحاد العام للغرف التجارية، الصيادلة مسؤولية إيضاح مخاطر الأدوية المسكنة للمرضى، حتى وإن كانت من ضمن الأدوية التي لا تحتاج وصفة طبية لصرفها، وعليه التأكد من أن المريض لا يعاني من أي مشاكل صحية في الكلى والكبد، مع ضرورة تحذير المرضى من مخاطر المسكنات غير السيترويدية تحديدا.

وتتضح أهمية دور الصيدلي في توضيح مخاطر المسكنات وطريقة استخدامها من تجربة الثلاثينية نعمة محمد خلف، التي لجأت إلى صيدلية حيث تقيم في حيّ منشية ناصر، جنوب العاصمة، حين كان عمر ابنها صفوت عامان فقط، ويشكو من مغص بشكل مستمر، ليصرف لها الصيدلي مسكن بروفين، والذي سرعان ما كان يزيل ألمه ويهدئه، وفق روايتها لـ"العربي الجديد"، ما دفعها إلى اللجوء لإعطائه المسكن كلما بكى أو اشتكى من شيء مرة أو مرتين في اليوم الواحد، واستمر هذا الحال على مدار ستة أشهر، ولم تلجأ خلال تلك الفترة إلى أي طبيب، وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2021 توجهت به إلى مستشفى عين شمس التخصصي لإجراء فحوصات، وشخّصه الأطباء بالفشل الكلوي المزمن بحسب ما يظهره تقريره الطبي، ومنذ تلك اللحظة تمر الأيام ثقيلة على أم صفوت وهي تراقب صغيرها والذي أصبح عمره 5 أعوام، حتى يشتد عوده ويتمكن من الخضوع لعملية زراعة كلى لتغنيه عن جلسات الغسل التي أرهقته، قائلة إنها "ستتبرع له بإحدى كليتيها تكفيرا عن ذنب اقترفته دون قصد".

وفي التاسع من مارس/آذار الماضي، حذرت هيئة الدواء المصرية في منشور عبر صفحتها الرسمية على "فيسبوك"، من خطورة الإفراط في تناول المسكنات لما تسببه من أضرار صحية بالغة، ومنها تدهور وظائف الكلى، مشددة على ضرورة استخدام المسكنات كما هي موصوفة من قبل الطبيب المعالج، وبأقل جرعة ممكنة، وأقصر فترة زمنية ممكنة، مع ضرورة استشارة مقدم الرعاية الصحية قبل تناولها، وأكدت الهيئة ضرورة استشارة الطبيب أو الصيدلي قبل تناول المسكنات من قبل المرضى الذين يعانون من أمراض الكلى، والأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً، أو المرضى الذين يتناولون الأدوية المدرة للبول، بالإضافة إلى المرضى الذين يعانون من أمراض القلب، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض الكبد.

الصورة
تقارير صفوت
الجهل بمخاطر المسكنات واستخدامها بعشوائية يخلّفان أضرارا صحية بالغة (العربي الجديد)

ويحيل الصيدلي ثروت حجّاج، عضو مجلس النقابة العامة للصيادلة، المسؤولية إلى الطبيب والمريض والصيدلي، قائلا إن المريض حين يتعاطى مسكنًا دون وصفة والطبيب حين يصف مسكنًا دون داعٍ والصيدلي حين لا يقوم بدوره في توعية المرضى بمخاطر المسكنات، جميعهم مسؤولون عن الأضرار الصحية الناتجة.

الصورة
تقرير رانيا
فقدت رانيا رمضان الأمل في عودة كليتيها للعمل الطبيعي وباتت تعتمد على الغسل بسبب لجوئها العشوائي للمسكنات (العربي الجديد)

ويجبر ارتفاع أسعار الخدمات الطبية في ظل تراجع الأحوال الاقتصادية المرضى على الامتناع عن الذهاب للمستشفيات والعيادات الخاصة والاكتفاء بتعاطي الأدوية المسكنة، إذ يعد سعرها أرخص إذا ما قورنت بتكاليف العيادات والمستشفيات والأدوية الأخرى والتحاليل الطبية، كما رصد فهمي ويستدرك قائلا أن هناك أيضا ما يصفه بـ"الاستسهال وجهل ضرر المسكنات على المديين المتوسط والبعيد اللذين يدفعان المصريين إلى تناول المسكنات بعشوائية"، وهو ما وقع للعشرينية رانيا رمضان التي بدأت تعاني خلال دراستها الثانوية آلامًا متفرقة في المفاصل، وفي كل مرة تلجأ فيها إلى طبيب مختص ينصحها بالخضوع لفحص بالأشعة، دون أن يتوصلوا لسبب الآلام، وكانوا يصفون لها مسكنا وفق روايتها لـ"العربي الجديد"، ويوميًا، وعلى مدار عامين كاملين ظلت رانيا تتعاطى مسكنات قوية أبرزها باي ألكوفان وهو أحد الأسماء التجارية لدواء كيتوبروفين، أحد الأدوية غير الستيرويدية المضادة للالتهابات، وكلما زاد الألم تزيد الجرعة من تلقاء نفسها دون استشارة طبيب، إلى أن ارتفع ضغطها وسقطت في أحد الأيام فاقدة للوعي، ليتبين أن كليتيها توقفتا عن العمل، وخضعت لثلاث جلسات غسل، وراقب الأطباء أداء الكلى بعدها، على أمل عودتهما للعمل لطبيعتها إلا أن ذلك لم يحدث، "وأنا الآن أقوم بالغسل منذ 6 سنوات، وأنهيت المرحلة الجامعية بالكامل وأنا أرتب جداول محاضراتي مع جداول غسل الكلى"، تقول رمضان.