عن امرأة ومهنة وقتل متعمَّد: ماري كولفين والسينما

عن امرأة ومهنة وقتل متعمَّد: ماري كولفين والسينما

11 ابريل 2019
ماري كولفين: بورتريه سينمائي في فيلمين (فيسبوك)
+ الخط -
اقتراحُ نَقْل حياة الأميركية ماري كولفين (مواليد نيويورك، 1956) إلى الشاشة الكبيرة، في فيلمين سينمائيين أُنجِزا في فترة واحدة، متأتٍ ـ بجزء كبير منه ـ من موتها "غدرًا" في "حيّ بابا عمرو" في حمص، في 22 فبراير/ شباط 2012، ومن تفرّدها المهني أيضًا، الذي جعلها أحد أهم المراسلين الحربيين في جيلها.

الجانب المهني، كمراسلة حربية وصحافية لامعة في الصحيفة البريطانية "صانداي تايمز"، وفهمها أخلاقيات العمل الصحافي في بؤر التوتر والحروب، وتكوينها الشخصي، وقناعاتها المتطابقة مع فجيعة نهاية حياتها، ظهرت أكثر في الروائي "حرب خاصة" (2018) للأميركي ماتيو هاينمان. بينما اهتمّ الوثائقي البريطاني "تحت السلك" (2018)، للإنكليزي كريس مارتن، بتوثيق يوميات مدينة حمص وسكّانها، لحظة تعرّضهم لإبادة ممنهجة، وبوجود كولفين بينهم، مع مراسلين أجانب آخرين، لقي بعضهم مصير أبنائها نفسه. 

تأسّس الفيلمان على نصّين مكتوبين: روائي هاينمان اعتمد على سيرة موجزة لحياة ماري كولفين وتجاربها المهنية، وفقًا لمقالة الأميركية ماري برينّير، "الحرب الخاصّة لماري كولفين"، المنشورة في المجلة الشهرية الأميركية "فانيتي فير" (أغسطس/ آب 2012). أما مارتن، فاختار كتاب "تحت السلك: المهمّة النهائية لماري كولفين" (منشورات "كوراكيس"، 2013) للمُصوّر الصحافي البريطاني بول كونروي، الذي أوكل إليه مارتن مهمّة تناول تجاربه الميدانية معها، وسرد تفاصيل اللحظات الأخيرة من حياتها.

هناك تبادل للأدوار بين المخرِجَين لافت للانتباه، ومتعلّق بأسلوب كلّ واحد منهما في سرد الحكاية. ففي السياق الحكائي للوثائقي البريطاني خصال السرد الروائي، المنبثق من طريقة الراوي/ المُصوّر كونروي في السرد، بصفته صديقًا وزميلاً لها، وأكثرهم تفهّمًا لأسلوب عملها الصحافي، والمُلازم لها طويلًا في تغطية أحداث دموية غالبًا، آخرها في سورية.

مُذهلة هي طريقة كلامه عن تفاصيل رحلته معها سرًا من لبنان إلى سورية لبلوغ حمص، وكلّ ما شاهده في "حيّ بابا عمرو". عفويته، ودقّة نقله الأحداث، وبوحه بمشاعره من دون خجل، أوجدت كلّها مناخًا دراميًا باهرًا، رغم غيابه أحيانًا عن الشاشة (أدّى دوره جوليان لويس جونز). في "حرب خاصة"، ظهر باردًا وتابعًا وقليل التفاعل، ومُقحَمًا في بعض المَشاهد. حيويته في الوثائقي، وتعابير حركة جسده الطافحة بالمعاني، أضفت مزيدًا من الصدق على نصّ مؤلم، كان بإمكان صانعه الاكتفاء به.



من جهته، انتقل هاينمان من الوثائقي إلى الروائي. المخرج الموهوب في الوثائقيات، ومُنجز أعمال مهمة، كـ"كارتل لاند" (2015) و"مدينة الأشباح"(2017)، ظلّ، من دون أن يدري، ميّالاً إلى التوثيق، وراغبًا في الذهاب إلى الحدث، من دون مقدّمات تمهِّد لتصعيد درامي مطلوب من نصّ، أُريد له أن يكون "بورتريه" سينمائيًا لشخصية، فيها عناصر درامية كثيرة.

في "تحت السلك"، يحدث العكس. هناك تأنٍّ مدروس، وملاصقة مدهشة بين الشفاهي والمُصَوّر. كلّ وصف ينطق به كونروي، يُرافقه مشهد يتطابق معه، إلى درجة تبدو المَشَاهد المُصاحبة لشهادته كأنّها مُصوّرة في استديو، وتمّ مزجهما معًا في غرفة المونتاج. الإضافة إلى البعد الدرامي كامنة في استخدامٍ موسيقيٍّ مؤثّر (غلين غريغوري وبيرينس سكوت). في وثائقيّ مارتن، كلّ كلمة تُقابلها صورة (صوّرها هو غالبًا، باستثناء ما وفّره له ناشطون مدنيون). كلّ صورة موظّفة لنقل المناخ المرعب، الذي عاشه المُصوّر مع كولفن منذ لحظة وصولهما إلى سورية.

ينشد الفيلمان ـ افتراضًا ـ مشاهدة متكاملة لهما. ما يقدّمه الروائي يمكن أن يتكامل مع الوثائقي، ويملأ نقصًا فيه. عندها، ربما يسهل فهم ما أراد ماتيو هاينمان قوله في فيلمه الروائي عن بطلته (روزاموند بيكي) وتمزّقاتها النفسية، لأن "تحت السلك" لا يقول الكثير عن كولفين الإنسانة، فهو غير معني بذلك الجانب، بقدر اعتنائه بما أرادت تحقيقه في حمص، ودفعت ثمن ذلك غاليًا. في "حرب خاصة"، كرّرت انحيازها إلى الخاسرين في الحروب، والمستضعفين فيها. هي غير مهتمّة بنقل تفاصيل المعارك وأنواع الأسلحة المستخدمة فيها كبقية المراسلين.



هاجسها عرض أهوال الحروب وأحوال المدنيين المتضرّرين بسببها. حدث هذا في سيريلانكا، حيث فقدت عينها اليُسرى بشظية قذيفة أطلقها جنود حكوميون عمدًا، رغم إعلانها هويتها الصحافية. لم يشفع لها صراخها وتوسّلها، فالمُراد إسكاتها. حدث هذا أيضًا عندما أطلق جنود سوريون قذائف على المنزل/ المركز الصحافي للناشطين السلميّين أثناء تواجدها بينهم. كان هذا فعل نظام خائف من كشف أكاذيبه وادّعائه بمهاجمته الإرهابين لا المدنيين. تقاريرها الميدانية قالت النقيض، ومقابلتها الأخيرة مع القناة الأميركية "سي إن إن" سرّعت تنفيذ قرار مُتّخذ سابقًا: تصفية الصحافية بأي ثمن.

نصف الساعة الأخير من الروائي ـ المُكرّس لإحداث تصعيد درامي يكثّف تجربة ماري كولفين في حمص ومقتلها في "حيّ بابا عمرو" ـ تشاركت والوثائقي، الذي وسّع دائرة رصده وصوّر صحافيين غربيين، كالفرنسييَّن إديث بوفيه، المُصابة بجروح خطرة، وريمي أوشلِك الذي قُتل أثناء القصف. شهادة إديث عن مواجهتها الموت ـ وهي مُمدّدة على سرير مترهِّل في غرفة مظلمة، إلى جوار المصوّر كونروي المُصاب حينها هو أيضًا بجروح خطرة، والناجي من الموت بأعجوبة ـ تعزّز استغاثة المدنيين المُطالبين بإيقاف مجزرة بشرية، أُريد لها أن تتم بصمت.

بينما يبدو المشهد العام غربيًا في فيلم ماتيو هاينمان، فإنّ كريس مارتن يعزّز وثائقيَّه بشخصيات سورية. للمترجم وائل (زياد أباظة) مساحة كبيرة، لصلته القوية بالمراسلين القادمين عبر الحدود، ولقناعته بفعالية دورهم في تكذيب ادّعاءات النظام. مؤمن بقدرتهم على إيصال صوت شعبه إلى خارج حدود المكان المحاصر، المعرّض للقصف ليل نهار بنيران المدفعية ورصاص القناصين. أراد أن يكون دليلهم وسندهم لنقل ما يُرتكب من فظاعات، وما يتعرّض له المدنيون من أهوالٍ، وصفتها كولفين بقولها: "لم أشهد مثلها قبلاً. إنها الأبشع بين الحروب كلّها التي غطيّتها".

أضفت شخصية وائل روحًا محلية، عبّرت عن حماسة شباب عاملين في "الميديا" بأبسط الوسائل، ولديهم أجهزة فيديو، صوّروا بها حراكهم السلمي. وافق الشاب على العمل مع المراسلين الأجانب طوعًا، ومن دون مقابل. أراد البقاء معهم حتى نهاية مهمّتهم. لم يتصوّر أن يكون مصير بعضهم الموت، لتتساوى مصائرهم الشخصية التراجيدية مع مصائر آلاف السوريين، لولا شجاعة صحافيين كماري كولفين وبول كونروي، لظلّت قصصهم حبيسة أمكنة حوصروا داخلها، أو دفنوا فيها.

المساهمون