وحدك... لا أهلاً ولا سهلاً

- ماذا تعني الكفاية؟

- القدرة والاستغناء.
يعني من يراك مصادفةً ويقول لك "أهلاً أخي" غالباً لا يعرف اسمك، وهذا جيد. لكنك سترتاح أكثر حين تلتقي بمصادفة نادرة شخصاً ذا عينين محايدتين لا يوجد فيهما لا أهلاً ولا سهلاً، ولا أخ.

قرار العزلة لا يعلن عنه في مواقع التواصل الاجتماعي. يعني، من يقول للعالم "أريد أن أعتزل" ليس جاداً، بل يبحث عن التربيت على الكتف، وينتظر من أصدقائه ومعارفه وعابري السبيل أن يقولوا له "معلش امسحها ف دقني".

المعتزل يسمع بوضوح صوت الهسيس. الهسيس هو صوت الصمت. صوت أعمق من غبار الطاولة.

المعتزل لديه جوّال نوكيا بطة خارج التغطية. لديه كليب (مصغّر كلب) شيواوا، يلهو ويعضعض النوكيا البطّة.

لديه غرفة نوم صغيرة وقويعة (مصغّر قاعة) فيها ثلاثة كراسي خيزران: واحد للمعتزل، وواحد لضيف جُمله قصيرة، والثالث للكلب شيواوا. اكتفى الكليب شيواوا من العضعضة وترك النوكيا البطّة عند شبشب الحمّام.

المعتزل لا يبكي مطلقاً من الأنف، بل يسدل ستارة الشباك، ويحدد الكابوس الذي سيراه.
حين يسأم يفتح شبّاكه على مصراعين.

املأ الفراغ
حين أستضيف أصدقاء يصيبني إرهاق خفيف وخفيّ سببه الاحتراس من الصمت.

فالمضيف عليه مواصلة عرض الضيافة دون أي فراغات، لأن أي فراغ يعني أنه لم يعد قادراً على أداء وظيفته.

وإذا حدث لأمر ما أن سرحت في الفراغ بلمح البرق، تغمز –غالبا- إحدى الزوجات زوجها كناية عن "يلا تأخرنا" تليها من الزوج فوراً "بيتكم عامر انشالله".

يشعر المضيف بالذنب (نون عليها فتحة أو سكون)، فتنهمر أيمانه المغلظة على الضيوف بأن يبقوا، وتساعده زوجته المهرولة من المطبخ وهي تهتف وتلوّح بيديها حالفة ألا يخرجوا قبل تذوق الكستناء أو المهلبية، أو لأنه "بكّير"، ووجودهم لا يملّ أبداً والله.

من ناحيتي أبذل كل فلكلور "املأ الفراغ" المتعلق بالضيافة من "أهلاً وسهلاً، ونورتوا" كل خمس دقائق، وتبديل طفايات السجاير، والتأكد من أن شفاط الدخان يعمل، واستعادة سؤال نزار قباني "أأعجبك الشاي؟"، والاستفسار عن أولاد الضيوف الأعزاء واحداً واحداً، مع أن أولادي أزهد في السؤال عنهم.

ثم نتناول المواضيع السياسية الساخنة، ونكون كلنا على قلب رجل واحد، لأن من المعيب أن يختلف موقف المضيف السياسي عن الضيوف، وهؤلاء يحرصون على ألا يصطدموا مع موقف المضيف وهم في بيته.

الفراغ ممنوع. وقبل أن يطبق الصمت بعد التوافق السياسي، نختار أربعة أو خمسة نستغيبهم ونسلخ لحمهم عن عظمهم. ثم نتحدث في شأن ثقافي بطيء، ونقترح معه أغنيات طويلة لأم كلثوم.

يبدأ شعور جماعي مع أغنية "حب إيه" يشبه شعورك في المقهى.

لكن ما إن تسترخي حتى تتذكر، وأنت المضيف لا صاحب مقهى، أن أم كلثوم تصبح أيضاً خلفية صوتية بعيدة، أي فراغاً ينتظر الضيوف أن تملأه بموضوع جديد.

ما يحدث للناس يحدث معي حين أكون ضيفاً.

أول فراغ صمت يمضي من دون "أهلاً وسهلاً" أو "زارنا النبي" أشعر بمسمار فجائي ينخزني، فأنهض مؤكداً أن "بيتكم عامر".

يقول درويش "الصمت، اطمئنان الصاحب للصاحب".