مسلسل "كونتاك"... نسخة عن واقع مُتخيَّل

مسلسل "كونتاك"... نسخة عن واقع مُتخيَّل

24 مايو 2019
تفقد الشخصيات قيمتها الكوميدية وتتحوّل إلى مجرّد أشكال (فيسبوك)
+ الخط -
يطل علينا هذا العام في رمضان مسلسل "كونتاك"، لمخرجه حسام قاسم الرنتيسي، لنكتشف منذ الحلقات الأولى أنه استمرار في التقليد الذي يتخذ من كوميديا التهريج والأنماط وسيلة للتعليق على ما تمر به سورية. تدور الأحداث في بناء متخيّل في مكان متخيّل يحوي شخصيات لا يمكن لها أن تجتمع في الواقع، بل نراها على الشاشة فقط، تأخذ مواقف مختلفة مما تشهده سورية من أحداث، وتختبر كوميدياً، وأحياناً بصورة مبتذلة، طبيعة إيقاع الحياة في سورية، والقوى التي تحكم الذين ما زالوا في الداخل.

نحن أمام نسخة وهميّة من مكان ما، يعلق على "سورية الحقيقيّة" بوصفها الأصل. هذا الأصل هو ذاك المتسق مع حكايات النظام السوري وموقفه من ما مرت به سورية، والذي يقسم العالم إلى "الداخل" و"الخارج". المثير للاهتمام في "كونتاك" أنه يجعل من الصور مرجعية له، أي هو نسخة عن أصل وهمي، غير حقيقي.

الأنماط التي يتبناها شكلانيّة، نراها في تاريخ الصور/ المسلسلات في سورية، إذ نرى حسام تحسين بك بدور برجوازيّ يدّعي أنه يمتلك سلطة، ومحمد حداقي بدور رجل من السويداء، وأمل عرفة بدور بدوية أو غجرية، وغيرها من الأنماط المألوفة، التي تفقد قيمتها الكوميدية كونها تتحول إلى شكل فقط. إطار فارغ من معناه يتحرك في عالم وهميّ. وهنا تأتي المرجعية الواقعيّة، لا فقط تلك المتعلقة بسورية، بل أيضاً بالصور الأخرى، ليبدو "الحي"، أو "البناء" نفسه، الذي تحضر ضمنه هذه الأنماط، أشبه بمخيم معاصر يجمع "أنماطاً" من مختلف أنحاء سورية.

نرى في إحدى الحلقات تعليقاً على السيول التي ضربت دمشق، ونشاهد صوراً حقيقية لها في المسلسل، وكيف حاولت الأنماط أن تساعد المتضررين، ليتداخل الحدث الواقعي مع العالم المتخيّل، الذي يعلق عليه بسذاجة ضمن حبكات لا يمكن أن تحدث في الواقع، وهذا من حق الخيال، لكن ما يثير التساؤل هو ما يحدث لاحقاً حين يجد أهل البناء صندوقاً يحوي مخطوطات أثريّة عُرف في سورية أنها سرقت من كنيسة في داريا التي قصفها النظام السوريّ. هذا التعليق المتخيل يقدم حكايات ساتيرية وكوميدية بديلة عن الحكاية الرسميّة، لكنها تتحرك ضمن فضاءاتها المسموحة.
يتلاعب "كونتاك" أيضاً بكيفية إدراكنا الحكاية التي لا تناصع لإيقاع الواقع وتدفق الزمن الأفقي، إذ يوظف تقنيات العودة بالزمن، والتي نراها بشكل شريط يتم إرجاعه للخلف لنكتشف خطاً آخر من الحبكة، وكأننا أمام احتمالات بديلة أو موازية، من دون أن تكون بالعمق الكافي، لكن في ذات السياق على العلاقة مع تاريخ الصور والثقافة الشعبيّة، إذ يعلق المسلسل كوميدياً على الصور النمطية الأخرى التي أنتجتها ما تسمى "الدراما العربيّة"؛ إذ نلاحظ تهكماً على مسلسل "الهيبة" وشخصية تيم حسن فيه، وكيف يضيع في البيروقراطيّة حين أراد تسليم سلاحه وتسوية وضعه ضمن حكاية "المصالحة الوطنيّة" التي يروج لها النظام السوري.

الأمر نفسه نراه في التهكم من مسلسل "باب الحارة" وكيف يمكن للص مبتدئ أن يعدل في السيناريو الخاص به، لينال بعدها المسلسل شهرة أكبر، وكأن "كونتاك" يأخذ موقفاً هزلياً من تلك المنتجات الثقافيّة الأخرى، يسخر منها ويحاول خلق سياقات جديدة لها، طارحاً سؤال: ماذا لو؟ تقنيات التعامل مع "الصورة" والحكايات المرتبطة بها، تتركنا أمام نسخ غير واقعيّة من "الواقع"، الذي يتحول إلى مجموعة من الحكايات والأقاويل الشعبيّة التي تحضر ضمن عالم المسلسل الفانتازي، بوصفها نسخاً عن نسخ من دون أي أصل، ومجرد توهمات وخيالات مبالغ بها كما في الحلقات التي تصور الحكايات في ألمانيا وكيفية يعيش اللاجئون هناك وعلاقتهم مع القانون، لنرى أنفسنا أمام نسخة كوميديّة تدّعي التعليق على الواقع، لكنها مجرد تعليق على المتخيّل المبتذل، هي كوميديا تسخر من متخيلاتها ذاتها، لا تحاكم الواقع، بل ببساطة تحاكم تصوّرها عنه.
غياب الأصل المتماسك في الصور التي ينتقدها المسلسل نراه في بعض الشخصيات التي تتغير أدوارها، إذ يلعب بعض الممثلين عدداً من الأنماط التي تتغيّر وظيفتها، لكنها تتحرك ضمن ذات المفهوم، وكأن المساحة المتخيلة تبيح لها هذا، هي أفكار أكثر منها شخصيات حقيقية ذات تواريخ، وهذه التقنيات تجعل المسلسل يقدم صيغة جديدة في التعامل مع الصورة وكيفية إنشائها، لولا طغيان التهريج والابتذال، وغياب محاولة تقديم أنماط ساخرة تعي أنها أنماط وتتهكم على الصناعة نفسها وآلية رؤيتها لذاتها.

دلالات

المساهمون