غنّي مزيداً.. يا عبير

غنّي مزيداً.. يا عبير

30 ديسمبر 2018
يعود صوت عبير بالمستمع إلى الأجواء والإيقاعات الراقصة (فيسبوك)
+ الخط -
من أبرز أحداث عام 2018 على الساحة الموسيقية في العالم العربي، إطلاق مارسيل خليفة ألبومه الرابع والعشرين، تحت عنوان "غني قليلا". هذه المرّة، بالاشتراك مع المغنيّة اللبنانية عبير نعمة، وبمصاحبة أوركسترا قطر الفلهارمونية، التي يقودها ميخاليس إيكونومو وبتقديم كوكبة من الشعراء العرب، منهم من لا يزال معاصراً، ومنهم من رحل.

 أثْرت قصائدهم أغاني الألبوم الأربع عشرة. فيما أعادت عبير، في إطار هذا الإصدار، تقديم قديمها الذي عنون الألبوم الجديد: "غنّي قليلاً"، من كلمات جوزيف حرب، وألحان مارسيل خليفة، الذي كان قد سجلها في ما مضى، ضمن أغاني ألبومه "ركوة عرب"، الصادر في التسعينيّات.

تُمثّل "غنّي قليلاً"، بصوت عبير نعمة، استحضاراً عصرياً لروح أغنية "يا طيور" الكلاسيكية؛ من كلمات يوسف إدريس، وألحان محمد القصبجي، وغناء أسمهان. فبالإضافة لتشابه العناصر الموضوعية thematic المؤلِفة للنص، والمُلهمة للحن، والموجّهة لكل من الأداء الغنائي والآلي، وهنا؛ العصافير وفعل تغريدها، يُعاد في سياق العمل أيضاً، تقديم القصيدة العربية المُغنّاة، بلُبوس أوركسترالي، يُخاط، ليس بالكتابة الهارمونية وحدها (أي الانسجام العمودي للنغمات الرئيسية والمصاحبة)، وإنما بالنسج على ألوان الآلات المختلفة، من وترية كالكمان، إلى نفخيّة، خشبية كانت كالكلارينيت، أم نحاسية كالترومبيت، وغيرها من عُدّة وعديد الفرق السيمفونية.

يحضر أيضاً، على المستوى الأسلوبي، ذلك الهاجس القديم، الجديد والمتجدد، لتقديم عمل موسيقي متجانس، يصل الشرق بالغرب، والتراث بالحداثة، إن سلّم المرء لوهلةٍ، وإن على مضض، بأن كل ما هو قديم أصيل أصلاً، وكل ما هو حديث دخيل حتماً. أتاح هذا الوصل وجود مؤسسة فنية نوعية في العالم العربي، في خليجه على الأخص، كأوركسترا قطر الفيلهارمونية، إضافة إلى مغنية قديرة وقادرة كـ عبير نعمة، تُجيد كما أجادت أسمهان من قبل، العبور من الطرب الشرقي إلى مُحاكاة طرق الأوبرا والجاز والغناء الحر.

تبدأ الأغنية بمقدمة لحن عتِم، منمِّطاً "سحر الشرق"، مؤلّفٍ على تلاصق نغمات ثلاث، تُشكّل منطلق مقام الحجاز. تعزفها آلات الكمان لوحدها مجتمعة، وعلى وتر واطئ وداكن، ما يُشعِر الأذن بالغم.

تُقابل بردّ من نظيراتها؛ الڤيولا، فالتشيلو والكونتراباص، لتهيج المقدمة صعوداً، حتى تُشرق عند ثالثة المقام، مُستدعيةً جموع الوتريات لتلتحم جميعاً في ذروةٍ بِكر. لا تلبث أن تهدأ وتؤولَ آلة كمان وحيدة، تسير بالأوركسترا من جديد، وباشتراك الطبل وموجات القيثارة هذه المرة، إلى نهضة درامية ثانية. تهبط بعدها درجات سلم الحجاز، حتى تصل إلى منسوب الهدوء، فالصمت.

يلِج القسم الأول بحركة حيوية، تقودها آلة الزايلوفون Xylophone، مصاحبةً بثنائي الطبلة والدف، في لون يمزج ما بين التانغو اللاتيني وإيقاع "الشفتتلّي" العربي. فيما تنحدر آلات التشيلّو والكونتراباص كروماتيّاً Chromatic؛ أي كل نصف بعد، نزولاً، بسطوح زمنية واسعة ومتساوية. يُضفي ذلك شعوراً بالإثارة والترقب، كالذي تخلقه موسيقى أفلام التشويق. إلى أن يتبدّى للأذن لحنٌ جديدٌ، تحاوره الكمانات، تزخرف ما حوله، وتنوع عليه، بخفة ورشاقة، مُستحضرةً صورة العصافير، تمهيداً لدخول عبير، من باب لحن الأغنية الأساس، وهي تقول: غنّي قليلاً.

تُتابع عبير، تصاحبها الكمانات حتى الطباق، ما خلا خواتم كاللوازم، و"اللازمة" أسلوب تقليدي في الأغنية العربية، أشبه بحشوة موسيقية، تسُدّ بها الآلات الفراغَ الحاصل بين الجمل الغنائية، وتُمهّد للقادم منها، كما تعبر بالأغنية، إن اقتضى الأمر، إلى مقام آخر. اللافت هنا، عدم احتكار الكمان لأداء اللوازم كما درجت العادة في أغلب الفرق الشرقية. وإنما تلونت اللوازم بتنوع الآلات، في استثمارٍ موفّق لطَيف الفرقة السمفونية، فتارة تؤديها آلة الكلارينيت وتارة آلة الأوبوا، في أسلوب تميّز به من قبل كل من عبد الوهاب، والرحبانيان.

تختم عبير القسم الأول في عَود على جملة؛ غنّي قليلاً، ليبدأ القسم الثاني وادعاً من دون إيقاع نابض، ينسج انسجامات هارمونية عريضة كأمواج البحر، عميقة ووجدانية، تُعيد الأغنية إلى بيئة المقدمة الميالانكوليّة، في حوار حالم بين مجموع الوتريات، ومُفرد آلة الأوبوا Oboe. يسمو إلى أن يلاقي صوت عبير، وهي تؤدي مقطعاً أوبرالياً من دون نص، وكأن حنجرتها قد صارت آلةً موسيقية، عصرية، فريدة، يُشبه صوتها آلة "الثرمين" Theremin؛ وهي جهاز إلكتروني، اختُرع في أول القرن الماضي، يُحدث صوتاً حاداً ونافذاً، عن طريق تداخل ذراع العازف مع حقل مغناطيسي، ناتج عن دارة كهربائية.

بـ"لا تغني"، يعود صوت عبير بالمستمع إلى أجواء البهجة والإيقاعات الراقصة، هذه المرة مزركشةً بالدف والنقر على أوتار الكونتراباص، ما يُضفي على الألحان طابع الخفة والطرب، وهو لون لبناني أرساه عاصي ومنصور منذ الستينيّات. تُنهي عبير الجملة بعزفٍ منفرد على حبال الحنجرة، كطير يُغرّد من على غصن. بفعل "غنّي"، وبأسلوب "الليالي" الحلبي (حيث يرتجل المطرب ويُطيل على لفظ "ليل"، يعيده وينوع عليه) تستعرض عبير مجالاً فضفاضاً من المهارات الصوتية والرهافة الحسيّة. تبدأ من الأوبرا وتنتهي بالجاز. من "غنّي" إلى "آه"، تطأ عبير أرض الحجاز، لتُطرب العَرَب بالعِرَب، حتى تسلّم، منهيةً المقطع الثالث.

"غنّي، إنني علقت روحي". بتلك الكلمات تُكمل عبير، بغنائية ميّزت شخصية مارسيل خليفة التلحينية في غير أغنية. فيما تنسج الأوركسترا بساطاً ناعماً، هادئاً، سيحمل صوتها في الهواء، الذي لا يلبث أن ينسلّ عبره لحن جديد، منفرد وممتد، تعزفه آلة "الهورن الإنكليزي" English Horn ذات الطابع الداكن. ينضم إليها الكمان. تبدأ عبير الغناء من دون كلام، بمساحات لحنية واسعة وممتدة، مرّة أخرى، بلون "الثرمين". وبإضافة القليل من الصدى على مجرى الصوت عبر المايكروفون، يتسامى الغناء، فيما ترنو الموسيقى بالتدرّج والتناوب بين صوت عبير وصوت الهورن الإنكليزي، نحو خاتمة لها ذات المزاج الميلانكولي الكرِب، الذي كان للمقدمة.

في مجال البنية، يميّز الأغنية الفيض اللحني والوفرة الجُمَلية، من جهة توالد الألحان، وربطها ببعضها كعقد المسبحة؛ وذلك عن طريق التنقّل بين المقامات والإيقاعات والأمزجة، يحدث هذا بفضل أسلوب اقترن بإسهامات الملّحن عازف العود. فالموسيقى تنساب وتتوالى من دون هيكل يؤطّرها ويُجنّدها في خدمة الشكل form. كتابة، جسدت ملامح الأغنية العربية، في إرثها وجديدها، في ما يُمكن أن يُصطلح عليه؛ "التلحين المرُسَل".

مقاربة تعتمد حس الارتجال أساساً لها، والوصل الأفقي وسيلةً وإطاراً وسيرورة، تتلاقى مع تراث الإنشاد في الكنيسة الشرقية، والغربية حتى العصور الوسطى. في مقابل مدرسة بنيوية، ترسّخت في أوروبا والغرب منذ عصر التنوير، إبان القرن السابع عشر، وظفّت اللحن والجملة الموسيقية كلّياً في خدمة الشكل.

إلا أن الحديث في "غنّي قليلاً"، هو تطوّر اللُبوس الأوركسترالي، وزيادة المهارة في أدائه وإبرازه؛ الأمر الذي يجعل البناء الأفقي أغنى وأكثر جاذبيّة، ويمدّه بشحنة عاطفية تشدّ المستمع، تحرّضه على استكشاف عوالم جديدة في الأغنية، لم يعهدها من قبل.

بذلك، لم تعد الموسيقى مجرّد خلفية للمغنى، وإنما أصبحت معلماً أساساً، وحاملاً للنص والمعنى، ليغدو المُغنّي بين ربوعها واحداً من كلٍ، يعيش ويعمل على خشبة المسرح، في مجتمعٍ فنّي متنوع الشخوص والأصوات، الألوان والآلات، والمطِربة فيه وردةٌ في روض، زهرة في بستان، عصفورٌ يشدو من على غصن صفصافة وارفة بهيّة.

المساهمون