"بعد الحقائق" لـ كارين بارلمان... شاهِد قبل الحذف

"بعد الحقائق" لـ كارين بارلمان... شاهِد قبل الحذف

24 يناير 2019
يضيء العمل على الفارق بين الحقيقة وصناعة الحقيقة (Imdb)
+ الخط -
واحد من انتقادات ثيودور أدورنو للصناعة الثقافيّة، خصوصاً السينمائية منها، مرتبط بالإيقاع الذي يخلقه المونتاج، الذي يتلاعب بالإدراك الحقيقي للزمن، كونه تقنية تغيّر من وعينا تجاه العالم، وترسّخ الاختلافات بين زمن الراحة وزمن العمل على الشاشة. هذا الاختلاف يمتد إلى "الخارج"، أو الزمن الحقيقي، الذي تقسّمه السلطة إلى وقت الجهد، ووقت الاستعداد لبذل الجهد. خطورة هذا التقسيم السينمائيّ، وعلاقته مع الواقع، تتجلى أثناء المونتاج، بوصفه ضبطاً لسلسلة من الصور المتتاليّة ضمن زمن لاواقعي، مُختزل، لا يتطابق مع الزمن البيولوجيّ. مع ذلك، هو يخلق الانطباع بالحقيقة، ويدعو المشاهد إلى مقاربته ومحاكاته.

هذه العلاقة مع المونتاج تتجلى لدى المخرجة والباحثة، في شريطها القصير الجديد "بعد الحقائق" (خمس دقائق)، الذي يعتبر استمراراً لبحثها في مفاهيم المونتاج والإيقاع، وعلاقتهما مع الحقيقة وإدراكنا لها، ودور السينما في خلق تاريخ "متحرك" استبدل الدوالّ الواقعيّة بأخرى سينمائيّة. 
يبدأ الشرط كدرس سيميولجيا تقليديّ؛ إذ نرى صورة فتاة تنظر إلى مكان ما، ثم صورة لمكان نظرها، ثم صورتها التي تحوي رد فعلها على ما رأته، ينقل لنا فكرة ما. الأهم، أن هذه الأفكار ونتيجتها حقيقة، كون هذه الصور لأشخاص حقيقيين. تخبرنا الراوية، بعدها، أن هذه التقنيّة تدعى بـ "تأثير كوليشوف"، التي طورها الأخير في بدايات القرن العشرين، شارحاً كيف يفهم الدماغ مجموعة من الصور المتتاليّة، لإدراك معناها، بسبب طبيعة ترتيبها والعلاقات التي يشكلها دماغنا بينها.
نكتشف "نسويّة" الفيلم انطلاقاً من تأثير كوليشوف، إذ تخبرنا كيف أنه لم يكن المبتكر الحقيقي لهذه التقنيّة، بل راقب النساء اللاتي كن يعملن في المونتاج، ونسب عملهن له، في إحالة ضمنيّة هنا إلى "المونتاج" الذي يخضع له التاريخ الذي تصوّره السلطة، هو يقدم حقيقة ما، مقنعة ومتماسكة في الكثير من الأحيان، لكنها ليست "الحقيقة"، بل مجموعة من الصور/الحقائق التي تتتالى لتخلق لنا الانطباع بأن ما نشاهده حقيقي عبر التلاعب بالإيقاع وبترتيب الصور.
تتابع المخرجة حديثها لتخبرنا عن "إسفير شوب/Esfir shub"، المخترعة الحقيقية لهذه التقنيّة، والتي قررت المخرجة أن تطلق عليها اسم "تأثير الخلط" في نفي للـ"حقيقة" التاريخيّة الذكوريّة. تخبرنا بعدها أن شوب كانت تحاول عبر هذه التقنيّة ألا تقدم فقط الحقيقة، بل تسعى إلى تقييمها، خصوصاً أنها عملت مع المخرج الروسيّ الشهير أليكسي فيرتوف "لنقل صور حقيقية لنساء حقيقيات أثناء عملهن"، إلا أن السلطة، والتي تتمثل أمامنا في الفيلم بصورة ستالين، لم تكن راضية عن ذلك؛ فالتوجيهات كانت تنص على تصوير الاتحاد السوفييتي بوصفه احتفالاً موسيقياً في حركة دائمة لا تشابه الواقع، ليتحول أرشيفهما، إثر ذلك، إلى مستودع من "الحقائق"، التي لا بد من تحويرها/مونتاجها لنفي الجانب "الحقيقي" التي أرادت أن تظهره مع فيرتوف، وهذا ما مارسته أيضاً على أفلام الآخرين، إذ عملت على مونتاج أفلام تشارلي تشابلن وفريتز لانغ لتناسب سياسات الاتحاد السوفييتيّ.

المثير للاهتمام، في الشريط، هو أسلوب صناعته، فالصور وتتاليها والتعليق عليها تشرح لنا كيفية التلاعب بالصور وإيقاعها، والاختلاف بين الحقيقة، وصناعة الحقيقة. في ذات الوقت، يضيء على التاريخ الخفي للنساء المونتيرات في السينما الصامتة؛ إذ كان الفضل كله عادة يعود إلى المخرج ومن يحرك الكاميرا، في حين كان ينظر إلى المونتيرات بوصفهن يقمن بأعمال تقنيّة، لا تحوي قيمة فنيّة، بل إن بعضهن لم تذكر أسماؤهن في تيترات الأفلام.
يرتبط موقف أدورنو السابق -والذي نراه في الفيلم- بالتقنيّة بأكملها بوصفها وسيلة هيمنة، كونها تخلق وعياً زائفاً بالعالم، توظفها السلطة لتشكيل بنيان رمزيّ يدّعى الحقيقة. في ذات الوقت، يقدم نماذج تتحرك ضمن هذا البنيان لترسيخ الزيف، وتقديم وعود بسعادة ما ثم ترسم سبيل تحقيقها ضمن طرق تقترحها السلطة لترسخ هيمنتها.

وسبب ذلك هو قدرة التقنية على تجاوز الحواس وقدراتها، والتلاعب بطريقة إدراكنا، ليأتي المونتاج ضمن المنتج الثقافيّ كضابط للإيقاع من جهة، وللوعي من جهة أخرى، لنرى أنفسنا أمام ما يسمى "اللا-سينما"، أو مجموع اللقطات المحذوفة من أي فيلم، تلك التي تخلخل الإيقاع، لكنها في حال وجدت قد تنقل حقيقة مغايرة، وكأن هناك أرشيفاً لو تمكنا من الاطلاع عليه، أو على الأقل مشاهد "كلّ" الفيلم، لتغير وعينا بالحقيقة وطريقة إنتاجها .

دلالات

المساهمون