أرونفينغ ومأساة اللاجئين: بهاء السينما

أرونفينغ ومأساة اللاجئين: بهاء السينما

23 نوفمبر 2018
"مانتا راي" لفونتيفونغ أرونفينغ: يوميات القهر (فيسبوك)
+ الخط -
قبل بداية أحداث "مانتا راي" للتايلاندي فونتيفونغ أرونفينغ ـ الفائز بجائزة أفضل فيلم في برنامج "آفاق"، في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ تمّ إهداء الفيلم إلى أرواح الراحلين من مسلمي الـ"روهينغا". الاعتقاد الأول، خاصة بعد مرور فترة طويلة من الفيلم، يُشير إلى أنها بادرة إنسانية طيبة من المُخرج، الذي تُجاور بلده تايلاندا دولة ميانمار. لاحقًا، يتضح أنه ليس مُجرد إهداء عابر. فالفيلم برمّته مصنوع للتحدّث عن اللاجئين في كلّ زمان ومكان، وخاصة عن مئات اللاجئين الذين ماتوا أثناء عبورهم الحدود فرارًا من أهوال واجهوها في ميانمار. ورغم الخلفية السياسية الصريحة تلك، فإنّ الفيلم ليس بيانًا سياسيًا، بل عمل فني وإنساني. 

هناك مفاتيح أساسية لفهم "مانتا راي"، القائم أساسًا (بدءًا من عنوانه) على الاستعارة لا على التصريح، وعلى المجاز لا على المُباشرة، وعلى توازن رائع بين الرمزي والواقعي. من هذه المفاتيح: المكان، وهو مُلهم أساسي. عند افتتاحه في الغابة (أول الاستعارات)، يظهر قناص ذو بشرة داكنة، وجسد مُزَيَّن بغرابة بأضواء نيونية برَّاقة ومُبهِجَة. لكن، ما الداعي إلى تلك المُقدّمة المُقحمة على الفيلم، خاصة أن تتبّع المَشَاهِد المظلمة في قلب الغابة، وذاك القناص، والاستماع إلى شريط الصوت المُميّز جدًا، هذا التتبّع يُنسى مع بداية الأحداث الدرامية.

في الخاتمة، هناك عودة إلى المقدمة نفسها، مع تنويع طفيف عليها. يعود المُخرج إلى الغابة، للتذكير بأنه لا بُدّ من إغلاق القوس، بعد سرد قصّة أحد العابرين، الذي لم يُصَبْ بما أصاب عابرين سابقين للغابة، لم ينجوا من الموت. فالغابة مكان عبور مئات مسلمي الـ"روهينغا"، الذين يقطعونها سرًا لبلوغ تايلاندا. كثيرون ماتوا، فتظهر جثث مغطاة أو غارقة في الطين. لذا، ينكشف مدى ضرورة المكان في الفيلم، واستخدامه كاستعارة. هناك أكثر من عودة إلى الغابة نفسها لأسباب عديدة. لكن، لم تُبتذل الاستعارة كثيرًا في السياق، بل على نحو مُقتصد ومُلغَّز، ارتقى بها إلى درجة التقرّب من الشاعرية.

مفاتيح أخرى: الحبكة القوية والمترابطة، والمُحَمَّلة بغموض كثير، من دون الغرق فيه. مليئة بالرموز من دون بلوغ الألغاز. هناك إحالات عديدة يسهل، بجهد قليل، فكّ شيفرتها، من دون افتعال، وفي الوقت نفسه، من دون إشعار المُشاهِد بأن الفيلم يتناول مأساة لاجئي الـ"روهينغا" وقتلاهم، أو مأساة أهل ميانمار. فهؤلاء غير مذكورين بتاتًا في فيلم يطرح المأساة عبر شخصيتين مُجرّدتين، ومرسومتين بإتقان في سيناريو كتبه أرونفينغ نفسه.

يدل "مانتا راي" على أن للصمت وقعه وتأثيره الأكثر بلاغة من الكلام. الصمت أحد المفاتيح التي يُمسك بها من الوهلة الأولى، في مشهد الغابة، وفي مشاهد لاحقة داخلها، مرورًا بالصيّاد الذي، رغم حياته البسيطة وفقره، يتّسم بالهدوء، ويتمتّع بالرصانة، ولديه سلام نفسي، وطبعه الذي يُقرّبه من الشعراء. دائم التأمل والتفكير والانعزال، يبقى بمفرده في قاربه الصغير في المياه، أو في حضن الطبيعة في الغابة. يبحث عن أحجار ثمينة فيها يُلقيها في البحر، ليتأمّل ألقها وبريقها في الأعماق مع اكتمال القمر، ويرى كيف أنها تجذب الأسماء الضخمة لـ"مانتا راي".

لا اسم للصياد (وانلوب رانكمجد). عندما يعثر على جثة شخص ويكتشف أنه لم يفارق الحياة فيعتني به، يتبيّن أنه أبكم، فيزداد الصمت ويتعمَّق أكثر. لكن طول مدّة الفيلم (105 دقائق)، لن يُعرَف ما إذا كان الرجل، الذي سمّاه الصيّادُ تونغشاي (أفيسيت هاما)، يُحجم عن الكلام بإرادته، أو أنه مصاب بصدمة أفقدته صوته، أو أنه أبكم فعليًا. ورغم عدم كشف اللغز حتى في الختام، ورغم أن الرجل يصدر همهمة حزينة في النهاية تقترب من صراخ المكبوتين والمعذّبين والمكلومين وأنينهم وآلامهم، إلّا أنّ صمته أو بكمه استعارة بليغة لصمت موتى الحدود جميعهم، وكلّ من هاجر أو علق على الحدود أو فَقَد أهلاً، أو بسبب الوحدة والعزلة الشديدين، اللذين يُعانيهما لاجئو ميانمار وغيرها.

علاقة الصداقة الحميمة القائمة بين البطلين، رغم اشتباه الصياد في جنسية تونغشاي، التي بناها المخرج ببطء، يتبيّن لاحقًا أنها ليست "مربط الفرس"، وأن لا رغبة للمخرج في الحديث عبرها عن التآخي والعطف والإنسانية، التي يُفترض بها كلّها أن تسود بين أبناء البلدين، أو في الحياة عامة. على عكس ذلك، فمع انتصاف الفيلم، وبعد إطلاع تونغشاي على أدق تفاصيل حياته، بينما ينصت الآخر إليه أثناء تماثله للشفاء، يختفي الصيّاد في ظروف غامضة، قبل اكتشاف تضادها وشخصيته الهادئة المسالمة والإنسانية. يبحث تونغشاي عن صديقه، لكنه يفقد أمل العثور عليه سريعًا. ثم يستعيد حياته تدريجيًا، وينتهي الأمر بارتداء ملابسه وتصفيف شعره وصباغه، ثم معاشرة زوجته، العائدة إلى بيتها، الذي هجرته سابقا من أجل عشيقها.

ما غرض علاقة الصياد بتونغشاي؟ ماذا عن تقمّص تونغشاي شخصية الصياد وحياته عن طيب خاطر، واستمتاعه بها كأنها حياته هو؟ ما سرّ اختفاء الصياد ثم عودته، وما علاقة هذا بحياته لاحقًا؟ ما مصير تونغشاي بعد ذهابه إلى المحيط؟ أذهب للانتحار، أم عاد عبر الحد البحري إلى بلده؟ أسئلة يتركها المُخرج مفتوحة على أبعاد واستعارات وتفسيرات تتناسب وثقافة المُشاهِد واستيعابه "مانتا راي"، وهو أول روائي طويل لفونتيفونغ أرونفينغ بعد اشتغاله طويلاً كمُصوِّر سينمائي، وكمُخرج أفلام وثائقية.

صنع فونتيفونغ أرونفينغ فيلمًا عميقًا وفلسفيًا، طارحًا فيه قضية إنسانية ملحّة للغاية، من دون ابتذال أو مباشرة أو إسراف في الميلودراما والسياسة. استطاع ضبط العناصر كلّها في فيلمه، والموازنة بينها بدقّة. حتّى ولعه بتصوير المَشَاهد الطبيعية واللقطات المُطوّلة أو البانورامية أو الواسعة، لم يطغ كثيرًا على عمله، ولم يكن مُزعجًا. فهو كشف المكان، وأجواء كثيرة وخلفيات وبيئة دارت فيها الأحداث (بقعة حدودية مجهولة في تايلاندا). صحيح أنه لم يصنع تحفًا فنية، لكن غالبية المشاهد جيدة جيدًا. إدارته الممثلين منحت الفيلم أداءً ممكنًا.

دلالات

المساهمون