جورج كلوني والإخراج السينمائي: تفكيك أميركا وحكاياتها

جورج كلوني والإخراج السينمائي: تفكيك أميركا وحكاياتها

09 يناير 2018
جورج كلوني (فيسبوك)
+ الخط -
في 15 عاماً، حقّق الأميركي جورج كلوني (6 مايو/ أيار 1961) ستة أفلام روائية طويلة كمخرج، ممثّلاً فيها كلّها أيضاً، باستثناء الأخير، "سابربيكن" (2017) الذي يُعرض حالياً في الولايات المتحدّة الأميركية ودول أوروبية وغربية مختلفة. الممثل الوسيم ناشط سينمائي وإنساني، يجعل من نجوميته داعماً أساسياً له في معاركه المختلفة، التي يخوضها عبر الشاشة الكبيرة، أو مع الناس في مصائبهم وانكساراتهم ومَوَاجعهم.

لديه حضورٌ مؤثّر في صناعة الصورة السينمائية في أميركا. أفلامٌ عديدة له كممثل تجارية بحتة، في مقابل أفلامٍ يصنعها هو كمخرج، ترتكز على مسائل في السياسة والاجتماع وآليات العمل والعيش الأميركيين، محاولاً عبرها فضح البنية الأميركية المتحكّمة بمسارات العمل والعيش نفسيهما، وإنْ تعجز بعض اشتغالاته الإخراجية عن إنقاذ أفلامه من بساطتها وتجاريتها البحتة.

والتجاريّ، هنا، ليس استهلاكياً باهتاً، بل منزّهاً عن سجالية يعتاد جورج كلوني على جعلها نواة جوهرية لنصوصٍ، تدفعه إلى تعرية جوانب أميركية، في السياسة والإعلام وأجهزة الأمن. جديده الأخير، "سابربيكن"، منخرطٌ في تفكيك شيءٍ من المعنى الأميركي للحياة والعلاقات، بسرده حكاية أفرادٍ متحدّرين من أصول أفروأميركية، يواجهون مناخاً غير وديّ عند وصولهم إلى تلك المدينة الهادئة، المشيّدة لسكنٍ مريح، والمحتوية على منازل بأسعارٍ معقولة، ومروجٍ مشذّبة بجمالية لا مثيل لها.

"التعريف الرسمي" للمدينة، وهذا ليس تفصيلاً عابراً، يقول إن المكان، بفضائه الإنساني والاجتماعي والانفعالي، نموذج صادق للحلم الأميركي. غير أن هذا الأخير يواجه، صيف 1959، تحدّياً أساسياً، مع وصول تلك العائلة، التي "تهزّ" المكان برمّته، وتُخلْخل ركائز الحلم، وأوهامه ومفرداته ومساراته وهواجسه.

لذا، يُمكن اعتبار "سابربيكن" أحد فصول المشروع السينمائي للمخرج جورج كلوني، الهادف إلى إعادة قراءة الواقع والتاريخ والاجتماع في أميركا، في حالاتٍ مختلفة، بلغة غير مكتفية بالتعرية، بقدر ما تصبو إلى نقاشٍ تفكيكي، يعتمد الصورة لغة تذهب بعيداً في مسام الحكاية، وتفاصيلها وتعقيداتها وتشابكاتها المتنوّعة.

عام 2002، أي بعد 18 عاماً على بداية مساره المهني كممثل تلفزيوني، ينتقل جورج كلوني إلى الإخراج السينمائيّ، محقِّقاً أول روائي طويل له بعنوان "اعترافات عقل خطر": تداخل معقّد بين عالمي الإعلام التلفزيوني وأجهزة الاستخبارات، عبر شخصية منتج ألعاب تلفزيونية (سام روكويل) له ماضٍ مهنيّ مع "وكالة الاستخبارات المركزية". والتداخل هذا يؤدّي إلى قراءة حالة أميركية مبنية على هواجس وأوهام ومتخيّل، إذْ يُصبح الإعلاميّ عميلاً، والعميل مخبّأ في تاريخٍ شخصيّ له لن يعرفه أحدٌ. أما "عمتم مساء، وحظ سعيد" (2005)، فيعود إلى خمسينيات القرن الـ 20، عبر شخصيتين حقيقيتين، هما إدوارد أر. مورّو (ديفيد ستارتيم)، مُقدِّم أحد أبرز البرامج الإخبارية في المحطة التلفزيونية "سي. بي. أس."، ومنتج البرنامج فْرَد فْرَندلي (كلوني)، اللذين يواجهان، بشراسة، الحملة الماكارثية ومساوئها.

بعدهما، يُحقِّق كلوني "الرؤوس الجلدية" (Leatherheads)، عام 2008: مستعيناً بـ"كرة القدم الأميركية"، يعود الفيلم إلى عام 1925، عندما لم تكن تلك الرياضة، بعد، شعبيةً وطاغيةً في المجتمع الأميركي. محاولة النهوض بفريق رياضي دونها تحدّيات جمّة، والعودة إلى تلك المرحلة، السابقة لـ "الانهيار الاقتصادي الكبير"، مسعى إلى إعادة قراءة جانب من التاريخ الأميركي في القرن الـ 20. وهذا سابقٌ لـ "15 آذار" (2011)، الغائص في كواليس انتخابات أميركية، حيث الفساد والاحتيال والسلطة والصدامات تختفي وراء واجهات "إيجابية" مُضلِّلة.

لكن كلوني لن يكتفي بفضح المعروف، وإنْ يكن المعروف متوارياً في دهاليز كثيرة. فالرغبة في إعادة قراءة تاريخ بلده لن تبتعد عن حاضرٍ سياسي موغل في تمزّقاته وأفعاله الجرمية، التي تُلوِّث أيدي البعض بالقتل غير المباشر، أحياناً.

أما "رجال الآثار" (2013)، فيبقى أسوأ أعماله الإخراجية: فرقة عسكرية أميركية يُكلَّفها الرئيس الأميركي ف. د. روزفلت، عام 1944، البحث عن الآثار الأوروبية المنهوبة من النازيين.




المساهمون