الكمامة الإلزامية في مصر: شكوك طبية وتكريس لاقتصاد الجيش

الكمامة الإلزامية في مصر: شكوك طبية وتكريس لاقتصاد الجيش

21 مايو 2020
ستخفف مصر إجراءاتها بعد عطلة عيد الفطر (Getty)
+ الخط -
شهدت مصر إهمالاً متنامياً في استخدام أدوات الوقاية الصحية ضد انتشار فيروس كورونا، في ظلّ عجز الدولة عن التصدي لها، إلى أن أصدر مجلس الوزراء قراراً في الفترة الأخيرة قضى بأن يكون ارتداء الكمامات إلزامياً على جميع المواطنين في الشوارع والمواصلات العامة والخاصة وفي المنشآت الصحية والحكومية، وذلك ابتداءً من 30 مايو/ أيار الحالي، وهو الموعد الذي ستُستأنف فيه الأعمال بعد أطول إجازة لعيد الفطر في مصر، ستمتد لنحو أسبوع. ورافق قرار الحكومة إشعار إلى وزارة الإنتاج الحربي بتصنيع 4.5 ملايين كمامة من القماش يومياً، لم يُعلَن سعرها حتى الآن. لكن هذا الإعلان فتح الباب أمام تكهّنات بمحاولة الشركات التابعة لوزارة الإنتاج الحربي والجيش احتكار سوق الكمامات المزدهرة حالياً في مصر، أو الاستحواذ على الحصة الأكبر منها، في إطار رغبة النظام في توسيع صلاحيات الجيش ومنافعه على الصعيد الاقتصادي، حتى في مثل هذه الأزمة الاستثنائية التي تواجهها البلاد.

ومنذ بداية انتشار وباء كورونا في مصر، عانت الأسواق نقصاً حاداً في توفير أدوات الوقاية كالكمامات والمطهّرات، وتبيّن بمرور الوقت احتفاظ الجيش بكميات كبيرة منها، وطرح قسماً منها للبيع التجاري في منافذه أو من خلال نقاط بيع محددة في الأسواق والضواحي والمنشآت الحكومية، بأسعار بدت منافسة لتلك المطروحة في الصيدليات، لكنها في الواقع فاقت بكثير سعر الكلفة أو حتى السعر الذي كانت تباع به تلك الكمامات في الأسواق قبل الوباء.

ويراوح سعر الكمامة العادية التي يستخدمها المواطنون في المنشآت الصحية بين 4 و6 جنيهات (بين 0.25 و0.38 دولار)، بعدما كان سعرها في الماضي لا يتعدى جنيهاً ونصف جنيه (0.095 دولار)، بينما يراوح سعر الكمامة الجراحية بين 75 و100 جنيه (بين 4.75 و6.34 دولارات) حالياً إذا وُجدت. وأعلنت نقابة الصيادلة من قبل أن سعر الكمامة العادية لدى باعة الجملة أصبح 3 جنيهات (0.19 دولار)، بعدما كان سعرها جنيهاً واحداً (0.063 دولار)، وهو ما يبرر من وجهة نظر الصيادلة السعر المطروح للمواطنين حالياً. غير أن الانعطافة المهمة في هذا الملف حدثت منتصف شهر إبريل/ نيسان الماضي، عندما أصدر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي قراراً مفاجئاً بوضع تسعيرات إجبارية لكل أنواع أدوات الوقاية من كورونا، من المطهّرات الكحولية حتى الكمامات، بأسعار منخفضة بالفعل عمّا تباع به تلك الأدوات في الصيدليات ومنافذ بيع الجيش والإنتاج الحربي على السواء.

وشرح مصدر من غرفة عمليات مجلس الوزراء في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، مآل الوضع بالقول: إن الكمامات والمطهّرات اختفت بنسبة تصل إلى 80 في المائة من الصيدليات ومنافذ البيع فور صدور القرار الذي أغضب جميع الأطراف، بما في ذلك الجيش الذي لم يكن مشاركاً في اتخاذه، ما فجّر أزمة في اجتماع مجلس الوزراء التالي لاتخاذ القرار. ووصف وزيرا الدفاع محمد زكي، والإنتاج الحربي محمد العصار، القرار بأنه "غير واقعي ولا يواجه متطلبات السوق".

وأضاف المصدر أن الصيدليات التي خشيت بيع المنتجات بسعر مخالف لقرار مجلس الوزراء، بادرت إلى عملية إخفاء منظّمة لها، كذلك أخفى الموردون الكميات المستوردة حديثاً من دول عدة، وكذلك الكميات القديمة لحين معالجة آثار الموقف. وزاد الطين بلة استمرار منافذ الجيش، تحديداً في محطات الوقود التابعة له، في بيع الكمامات والمطهّرات بأسعار تفوق ما هو محدد بقرار مجلس الوزراء. وأوضح المصدر أن قرار التسعير، وإن كان قد ابتغى بالفعل المصلحة العامة، فإنه صدر بالمخالفة لتوجهات الدولة، ما أثار أسئلة عن مدى التنسيق بين القطاعات المختلفة قبل اتخاذ قرار بهذه الخطورة، أدت تبعاته إلى اختفاء سلع بالكامل.
وكشف أن شُعَب الصيادلة والموردين في الغرف التجارية انضمت إلى الجيش والإنتاج الحربي في الضغط على الحكومة لإلغاء القرار، حتى اتفق رئيس الوزراء مع وزيرة التجارة نيفين جامع بإعلان تأجيل تطبيقه، من دون أن يعلن القرار بنفسه لحفظ ماء وجهه، وهو ما تحقق بالفعل في 13 مايو الحالي. وذكر المصدر أنه بعد صدور قرار التأجيل عادت السلع المختفية للظهور بذات الأسعار التي كان القرار قد صدر لمجابهتها، وهو ما ينسف ادعاءات الحكومة المتكررة عن توفير الواقيات، خصوصاً للمنشآت الصحية التي تعاني من نقص حاد في جميع أنواع الأدوات والمواد التي من المفترض أن تستخدم فيها بكثافة، إلى درجة أدى بها هذا القصور إلى تأجيل افتتاح مستشفيات جديدة للعزل، رغم ورود شحنة كبيرة جديدة من الكمامات والواقيات من الصين أخيراً.

لا يتوقف الارتباك والتضارب عند هذا الحد، ففي البداية كانت النية تتجه لتوسيع عمل الجيش في إنتاج الكمامات العادية والجراحية فقط، مع إعلان وزارة الإنتاج الحربي منذ شهر إنشاء خط إنتاج لتصنيع الكمامة الجراحية المعتمدة عالمياً والمقاومة للفيروسات، بطاقة إنتاجية تصل إلى 40 ألف كمامة يومياً، على أن تُرفَع إلى 100 ألف يومياً. لكن بسبب ارتفاع التكلفة بالنسبة إلى الطلب المحلي، توجّهت الحكومة إلى تعميم الكمامات القماشية، التي بدأت بعض المصانع الخاصة بإنتاجها بطريقة غير مطابقة للمواصفات العالمية، في ظل شكوك حول فائدة تعميم ارتداء كمامات قماشية "قابلة للغسل والكيّ"، كما ذكر رئيس الوزراء في خطابه يوم الأحد الماضي.

في السياق، يقول مصدر في ديوان وزارة الصحة، إن استخدام الكمامات القماشية محفوف بالمخاطر، لأنها تفقد فاعليتها بمجرد تعرضها للرطوبة أو المياه أو العرق، ما يوجب أن تحوي طبقتين أو ثلاثاً من القماش المعالج، تفصل بينها مواد ورقية أو بلاستيكية، كي تكون فعلاً صالحة للوقاية من العدوى الفيروسية. ويوضح المصدر في حديث لـ"العربي الجديد" أن "كل الكمامات القماشية التي طرحت في السوق المصرية حتى الآن، في محاولة للحاق بركب تعليمات رئيس الوزراء، غير مطابقة للمواصفات العالمية، أما الأعداد المليونية من الكمامات التي ستنتجها وزارة الإنتاج الحربي، فلم تبصر النور حتى الآن". ويشير إلى أن "وزارة الصحة سبق أن نصحت الحكومة بعدم الإقدام على خطوة تعميم الكمامات القماشية قبل اختبارها لأسابيع عدة، حتى لا تتحول من أداة للوقاية إلى أداة لنشر العدوى بطريقة أسرع، خصوصاً في أوقات الصيف الحارّة".

ويرجّح المصدر أن يؤدي قرار الإلزام بارتداء الكمامات إلى أزمة طاحنة في السوق نتيجة ضعف المعروض من جهة والسلوكيات الشرائية الناجمة عن القلق من جهة أخرى، كشراء كميات كبيرة والتخزين في المنزل أو في بعض الأجهزة والمؤسسات والشركات الخاصة والأندية وغيرها، تحديداً بعد التلويح بعودة الأعمال بشكل كامل منتصف الشهر المقبل. ويشير إلى أن الكميات الواردة حديثاً من الصين لن تطرح في الأسواق بأي حال، بل سيُوزَّع القسم الأكبر منها على المستشفيات وستُخصَّص أقسام أخرى للمؤسسات الحكومية التي ستعود للعمل بشكل كامل الأسابيع المقبلة، مثل المحاكم والشهر العقاري والمرور وغيرها.
ويشدد مصدر وزارة الصحة على أن الوضعية الحالية لتوافر المستلزمات في المستشفيات "لا تزال في مرحلة الخطر"، نظراً لاستهلاك كميات كبيرة للغاية من الأدوات والمطهّرات في مستشفيات العزل. ويعتبر أنه "يمكننا القول إن كل سرير مشغول في مستشفى العزل أو الإحالة يتكلف ما يقرب من ليتر ونصف ليتر من الكحول يومياً، و4 كمامات جراحية عالية الجودة على مدار اليوم. وهناك العديد من المستشفيات التي يثبت عند الفحص والمتابعة أنها تتجاوز التعليمات الموضوعة من قبل الوزارة باستخدام الكمامات لفترات أطول من فترة صلاحيتها نتيجة قلة الأعداد". وعن سؤاله عما إذا كان هذا الأمر سبباً في ظهور بعض حالات الإصابة بين الطواقم الطبية في مستشفيات العزل بكل من النجيلة بمطروح وتمي الأمديد بالدقهلية و15 مايو بالقاهرة، يفصح قائلاً: "هذا وارد، لكنه ليس السبب الحاسم". يذكر أن وزيرة الصحة هالة زايد، لم تكن حاضرة من الأساس في المؤتمر الذي أعلن فيه رئيس الوزراء قرار الإلزام بارتداء الكمامات، ولم تصدر عن الوزارة أي بيانات بشأن طبيعة الكمامات التي ستُستخدم.

وسبق للحكومة أن صدّرت وأهدت ملايين الكمامات محلية الصنع والمستوردة إلى دول أخرى كالصين وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، في فترات سابقة، تعبيراً عن حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي على توطيد العلاقات مع تلك الدول. وأعلن رئيس شعبة الأدوية علي عوف، أن الصين استوردت 145 مليون كمامة من مصر في فبراير/ شباط الماضي، وأهدت مصر 10 أطنان من المعونات الطبية إلى الصين في منتصف الشهر ذاته، وبعدها أرسلت مليوناً ونصف مليون كمامة إلى إيطاليا في مارس/ آذار الماضي، في وقتٍ كانت السوق المصرية تفتقر فيه إلى أدوات الوقاية.

وبعد نحو شهرين على المنح المصرية، أعلنت وزارة الصحة المصرية، يوم السبت الماضي، استقبال شحنة ثالثة من المساعدات الطبية الوقائية لمكافحة فيروس كورونا من الصين. وذكرت الوزارة في بيان أن الشحنة تزن 30 طناً من المستلزمات الطبية الوقائية، وتتضمن مليون كمامة طبية، و150 ألف كمامة "أن 95"، و70 ألف مجموعة من الملابس الطبية الوقائية، و70 ألف قفاز طبي، بالإضافة إلى 70 ألف كاشف خاص بتحاليل الفيروس، وألف جهاز قياس درجة حرارة. وتجاوزت حالات كورونا في مصر 13 ألفاً حتى الآن، وسُجّل أول من أمس الثلاثاء، أعلى رقم يومي في الإصابات وهو 720 حالة جديدة، ووفاة 14 شخصاً، ليصل العدد الإجمالي لحالات الوفاة حتى الآن إلى 659 شخصاً.

وأعلنت الحكومة تشديد الإجراءات فقط لمناسبة عيد الفطر (أواخر الأسبوع الحالي)، مع حظر التجول من الخامسة مساءً وحتى السادسة صباحاً، ووقف المواصلات الجماعية، وإغلاق المحال التجارية والشواطئ والمولات والمتنزهات والحدائق، على أن تعود الإجراءات بصورة مخففة بدءاً من 30 مايو الحالي ولمدة أسبوعين آخرين. وسبق أن تجاهلت الحكومة مناشدة العديد من الجهات تشديد الحظر، ومددت تطبيق إجراءاتها المخففة منذ بداية شهر رمضان (الأسبوع الثالث من شهر إبريل الماضي) إلى نهاية شهر رمضان، فضلاً عن إعادة تشغيل المحال التجارية والحرفية والمولات يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع، وأعادت تشغيل الخدمات الحكومية تدريجاً بعودة عمل بعض المصالح جزئياً كالشهر العقاري والمحاكم والمرور.

المساهمون