كورونا: جبهة المشككين في الصين تتّسع

كورونا: جبهة المشككين في الصين تتّسع

19 ابريل 2020
اعترفت ووهان بزيادة عدد الوفيات (Getty)
+ الخط -

قد يُدفن فيروس "كوفيد 19"، ويحمل سرّه معه. قد تكون هذه الخلاصة من الأكثر إحباطاً عندما يحين موعد طيّ صفحة وباء كورونا، وإدارة مرحلة ما بعده. فمنذ الإعلان عن تشخيص أولى الحالات المصابة بالفيروس في مدينة ووهان بمقاطعة هوبي، شمال الصين، لم تتوقف النظريات والفرضيات حول حقيقة منشأ الفيروس، الذي تخطى عدد ضحاياه المليوني نسمة، من أقصى اليمين السياسي إلى أقصى يساره، ومن أعلى الهرم إلى عامة الشعب. وعلى الرغم من أن لا دولة "حيادية" في العالم، أو معصومة عن إثارة الشبهات إذا ما خرج الوباء منها، إلا أن خروجه من الصين وطريقة تعاطي الصين مع الموضوع، أنعشا الفرضيات، ليس فقط، في الدول التي تعيش صراعاً معها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بل حتى لدى الحزب الشيوعي الصيني الحاكم نفسه، وفي كل منبر علمي وسياسي وإعلامي. بعض النظريات من الممكن تجاهلها، كمثل مقولة مجلة "ذا أتلاتنك" أن الزعيم الصيني شي جي بينغ، خُدع بالفيروس في عقر داره، إلا أن ما يبدو أكيداً حتى اللحظة أن كورونا سيفتح باباً جديداً من الصراع العالمي، عنوانه الأساسي تسعير الحرب بين الولايات المتحدة والصين، قد تكون منظمة الصحة العالمية أول ضحاياه.

وتنقسم الاتهامات الدولية الموجهة إلى الصين، في ما خصّ تفشي الوباء، إلى شقين: الأول يتعلق بالتعتيم والكذب اللذين اعتمدهما هذا البلد، في أولى مراحل تفشي الوباء في بؤرة ووهان، حول الحقائق وأرقام الضحايا، وهو ما تعزز أخيراً مع إعلان المدينة ارتفاع نسبة الوفيات بالفيروس بحوالي 50 في المائة. هذا التعتيم، الذي يجد له صدى في الدوائر العلمية والسياسية العالمية على حدّ سواء، والذي يجوز فيه أيضاً تبرير موقف الصين بأنه لم ينجم عن "سوء نية" (اختلاط الأمور لدى الهيئات الصينية مع إنفلونزا موسمية مثلاً)، لم تترك آثارها فقط في العلاقات الدولية، وحتى بين الصين وحلفائها (إيران مثلاً)، بل تعدتها لتضرب الجهود العلمية التي لا تزال تبذل لاحتواء الوباء، وإيجاد لقاح له، وبينهما أن أي شفافية في الأرقام، لو اتبعتها بكين، لكانت ستوفر على البشرية درب الآلام هذا، ومعاناتها الصحية غير المسبوقة منذ أكثر من 100 عام. وهنا لا يفوت كل من ينتقد الصين التذكير، بأنها لم تبلغ منظمة الصحة العالمية أن الوباء ينتقل من إنسانٍ إلى آخر إلا في 20 يناير/كانون الثاني، أي تقريباً بعد شهر من انتشاره في البر الصيني. وفي هذا الإطار، فقد أصدرت لجنة الصحة الوطنية الصينية منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، ثمانية تعريفات لتوصيف الحالة المشتبه فيها، فيما كان الخبراء يحاولون النبش في خبايا الفيروس. وفي تبسيطٍ للأمور، يقول بن كاولينغ، وهو أستاذ الأمراض الوبائية في جامعة هونغ كونغ، لمجلة "تايم"، إن توصيف الحالة المشتبه في الصين اقتصر بداية على الحالات الحرجة، أو التي أظهرت عوارض شديدة للمرض، لتعود السلطات لاحقاً وتضيف الحالات "المتوسطة"، وهكذا تباعاً. هذا من دون التذكير بالقمع الذي مارسته السلطات الصينية بحق الأطباء والعلماء الذين اكتشفوا باكراً انتشار الفيروس، فكان مصيرهم السجن والاعتقال والإرغام على الاعتذار، والموت لاحقاً بالمرض نتيجة الإهمال بحقهم.

وأكدت تقارير استخبارية أميركية أن أرقام الصين حول عدد الضحايا غير صحيحة، وهو ما يردده تباعاً المسؤولون الأميركيون، وعلى رأسهم الرئيس دونالد ترامب، ووزيرا الخارجية والدفاع، مايك بومبيو ومارك إسبر. وقال ترامب أول من أمس الجمعة، إن "أموراً غريبة كثيرة تحدث" في ما يتعلق بأصل الفيروس، مضيفاً أن حكومته تحاول تحديد ما إذا كان الفيروس خرج من مختبر في الصين، مشككاً أيضاً في عدد الوفيات في هذا البلد. مع العلم أن الرئيس الأميركي يواجه أيضاً اتهامات بالفشل في إدارة الأزمة داخلياً، كان آخرها من المرشح الديمقراطي المفترض في انتخابات الرئاسة جو بايدن، الذي قال الجمعة إن الأميركيين يدفعون ثمن تقاعس ترامب عن محاسبة الصين على جائحة كورونا، مضيفاً "دونالد ترامب ترك أميركا مكشوفة ومعرضة لهذه الجائحة. لقد تجاهل تحذيرات خبراء الصحة ووكالات الاستخبارات، وبدلاً من ذلك وضع ثقته في زعماء الصين".

وبحسب تقرير لوكالة "رويترز"، في الخامس من مارس/ آذار الماضي، فإن الصين تعاملت مع الوباء بسرّية تامة، وقبله بـ18 شهراً، مع حمى الخنازير الأفريقية، وضغطت على السلطات المحلية لمنع توعية المواطنين ونشر الأخبار، ما قد يشي بسلوك نمطي من السرية البيروقراطية والمعالجة المنحرفة. وتقول دراسة لجامعة "ساوتامبتون"، إنه لو حصل تدخل رسمي في الصين لمحاصرة الوباء في ووهان، قبل أسبوع أو اثنين أو ثلاثة أبكر، لكان تقلص عدد الضحايا بنحو 66 و86 و95 في المائة على التوالي، مع حصر النطاق الجغرافي للتفشي. علماً أن نظرية التعتيم لم تتوقف على خارج الصين "الطبيعية"، بل حتى في الداخل، هناك من اتهم الحزب الحاكم بنشر أرقام "من الصعب لعاقلٍ تقبلها".

وتنحو فرضية علمية أخرى باتجاه الاعتقاد بخروج كورونا من مختبر صيني. هذا ما أثاره البروفسور الفرنسي لوك مونتانييه، أحد مكتشفي فيروس الإيدز عام 1983، وصاحب جائزة نوبل عام 2008، ومفادها بأن كورونا المستجد نجم عن خطأ ارتكب نتيجة نقص الإجراءات الوقائية في مختبر (في ووهان ربما) لدى محاولة إنتاج لقاح ضد الإيدز. وأكد مونتانييه في مقابلتين صحافيتين، أن الدليل وجود عناصر من فيروس "إتش آي في" في مجين الفيروس الجديد، فضلاً عن عناصر من مرض الملاريا، وهي "خصائص لا يمكن أن تحصل طبيعياً". وانقسم المتابعون إلى معسكرين إزاء فرضية مونتانييه، بين من يدعو إلى النظر جدياً فيها (كالفيلسوف الفرنسي إدغار موران)، في مقابل من سخر من مونتانييه واتهمه بالخرف (يبلغ من العمر 87 عاماً) على خلفية أطروحات سجالية ترتبط باسمه، مثل اعتباره أن التلقيح الإلزامي للأطفال أمر لا يخدم إلا شركات الصيدلة وصناعة الأدوية في العالم. ورأى عالم الأوبئة إتيان سيمون-لوريير، من معهد باستور الباريسي، في حديث لوكالة "فرانس برس"، أن كلام مونتانييه "لا معنى له، إذ نجد هذه العناصر في فيروسات أخرى من العائلة نفسها، في فيروسات كورونا أخرى في الطبيعة". وفي الواقع، وكما تقول الوكالة، فإن "فرضيات تسري منذ فترة بأن الفيروس ناجم عن تلاعبات جينية، وقد استبعدت بفضل تحليل مجين الفيروس الذي وفره الصينيون، وتمكن باحثون في مناطق مختلفة من العالم من تشخصيه وتحليله بأنفسهم". وفي 14 إبريل/ نيسان الحالي، قال رئيس أركان الجيوش الأميركية المشتركة، الجنرال مارك ميلي، إن الاستخبارات الأميركية "بحثت بقوة في شائعات أن كورونا ولد في مختبر صيني، وللآن هذا ليس حاسماً".

هكذا، لا يزال التعتيم الصيني، على الرغم من دبلوماسية "الأقنعة" التي انتهجتها بكين، الأكثر ميلاً لإشعال حرب دبلوماسية بين الدب الصيني وعواصم العالم، قد تأخذ منحى أكثر جدية في صراع الأقطاب الدائر. وانضمت باريس ولندن إلى العواصم الغربية، التي رفعت أخيراً من منسوب "العتب" على بكين واتهامها بالتستر المقصود. ووجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاتهام إلى الصين، قائلاً إنه "من الواضح أن هناك أشياء حدثت ولا نعرفها"، فيما اعتبر وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب، أن على بكين الرد على "أسئلة صعبة حول ظهور الفيروس، ولماذا لم يكن بالإمكان وقفه في وقت أبكر".

على المقلب الآخر، نشر موقع "ذا ناشيون" الأميركي تقريراً بناء على مذكرة استخبارية داخلية تعود لعام 2017، مفاده بأن البنتاغون كان على علم باحتمال تفشي وباء قد يحدثه "كورونا" مستجد، متوقعاً بدقة "نقصاً في عدد الأقنعة الواقية، وأسرة المستشفيات، وأجهزة التنفس".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)