خنادق الفصل الطائفي بالعراق: تغيير ديمغرافي بحجة محاربة الإرهاب

خنادق الفصل الطائفي بالعراق: تغيير ديمغرافي بحجة محاربة الإرهاب

عثمان المختار (العربي الجديد)
عثمان المختار
صحافي عراقي متخصص بصحافة البيانات وتدقيق المعلومات. مدير مكتب "العربي الجديد" في العراق.
28 يوليو 2016
+ الخط -
على مشارف تسع محافظات عراقية كبيرة، تستمر آلات الحفر بشق الخنادق، بسرعة هائلة، في ما بدا أنّه سباق على تنفيذ خارطة داخلية جديدة لبلاد الرافدين. خنادق عميقة وعريضة يتم حفرها بين محافظات الأنبار، وكربلاء، وبغداد، وديالى، وصلاح الدين، وبابل، وواسط، ونينوى، وكركوك وغيرها في المحور الكردي على حدود إقليم كردستان العراق، شمالي البلاد. وتعدى الأمر إلى حفر خنادق داخل المحافظة الواحدة نفسها حول مدن معينة تقطنها تشكيلة طائفية أو عرقية معينة.

خنادق لم تُحفر في ذروة قوة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وتهديده لكل من بغداد، والنجف، وكربلاء. لكن اليوم ومع دخول التنظيم في أضعف مراحله تتم عمليات الحفر بأقوى صورها، وما يجعل الشارع أكثر ريبة وقلقاً من عمليات الحفر تلك، هو أنّ مليشيات "الحشد الشعبي" وأحزاب سياسية تشرف عليها، وسط تغاضٍ حكومي تام عن قسم من تلك الخنادق، وتأييد لبعضها، واعتراض على أخرى تقوم القوات الكردية "البشمركة" بقوة السلاح الذي فرضه واقع ما بعد دخول "داعش"، بعمليات حفرها بين مناطقها والمناطق العربية المجاورة.

نحو 11 ألف آلة حفر عملاقة استقدمت من شركات النفط العاملة بالبلاد والوزارات الخدمية مثل الري والمياه، والبلدية، والدفاع، والداخلية، والزراعة، وشركات القطاع الخاص التي وجد فيها أصحابها فرصة للخلاص من البطالة. وتمنح كل حفارة للقطاع الخاص مبلغ 20 ألف دينار للساعة الواحدة (15 دولاراً) من الحفر بالأرض العراقية لتمزقها، بحسب مصادر محلية وأمنية تحدثت لـ"العربي الجديد". وتقع على خط تلك الخنادق التي تجاوزت حدود المحافظات الأخرى واقتطعت أجزاء منها.

وأثار بيان لنائب رئيس مجلس كربلاء، علي المالكي، أول من أمس الثلاثاء، أعلن فيه صراحة عن البدء بمشروع خندق إضافي جديد يهدف لإكمال عزل كربلاء عن الأنبار بهدف ما وصفه "منع تسلل الإرهابيين إلى المحافظة". مخاوف عراقية جدية من تلك الخطوة، خصوصاً أنها تجري علناً، وكلها تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب". وبحسب البيان، فإن الجيش وإدارة العتبتين المقدستين والقوات المساندة الأخرى باشرت بحفر الخندق على طول 70 كيلومتراً. وسيتم إنشاء ساحات للتبادل التجاري للبضائع الآتية من المنطقة الغربية للعراق"، في إشارة إلى محافظة الأنبار. ويضيف البيان أن "الغاية من مشروع الخندق الأمني منع وصول المسلحين والسيارات المفخخة إلى كربلاء التي تستقبل ملايين الزائرين على امتداد العام لزيارة الأضرحة المقدسة". ووفقاً لبيانات رسمية سابقة، فإن كلاً من بغداد، وبابل، وكربلاء، وواسط، وديالى، وصلاح الدين، وكركوك، وإقليم كردستان العراق باشرت بحفر تلك الخنادق.

وأعلنت بغداد رسمياً استئناف الحفر بخندق العاصمة بمشاركة قيادة عمليات بغداد وهيئة "الحشد الشعبي"، بحسب بيان رسمي، جاء فيه أن "الخندق يبلغ عرضه 12 متراً ونصف بعمق متر ونصف". بينما أعلنت كل من كربلاء وبابل الانتهاء من حفر خنادق مع الأنبار والفلوجة. كما بدأت فصائل مليشيات "الحشد"، هذا الأسبوع، بحفر خندق حول مدينة الدجيل وبلد بمحافظة صلاح الدين عمقه ثلاثة أمتار وبعرض ثلاثة أمتار بمحاذاة الطريق الذي يربطها بمدينة الضلوعية. وفي الفلوجة، تستمر عمليات حفر الخنادق من جهة بغداد لعزلها تماماً عن العاصمة. وفي مدينة جرف الصخر، شمالي بابل، والتي استعاد الجيش العراقي السيطرة عليها العام الماضي من تنظيم داعش، تم الانتهاء من حفر خندق حاصر المدينة وحوّلها إلى أشبه ما يُسمى بـ"جزيرة معزولة".


بدوره، حدّد إقليم كردستان مناطق تقع تحت نفوذه حين عمد إلى إقامة خنادق فيها على الرغم من الأصوات المعترضة عليها بسبب تخوفها من عمليات تمهيد لتقسيم العراق، مبينين أنها خنادق طائفية وقومية واضحة وتكتيك يعود للعصور الوسطى في حماية المدن. واعتبر المعترضون أنّ هذه الخنادق غير مجدية إذا ما تم التسليم أن الغطاء المعلن وهو "الحرب على الإرهاب ومنع داعش من التحرك أو التوغل بالمدن هو السبب الحقيقي لإنشائها".

وحاولت "العربي الجديد" الحصول على تصريح من مكتب رئيس الوزراء حيدر العبادي إلا أن المسؤولين الموجودين رفضوا الحديث عن الموضوع، ومن بينهم الأمين العام لمجلس الوزراء العراقي، الدكتور مهدي العلاق. لكن مسؤولاً عراقياً رفيع المستوى يؤكد لـ"العربي الجديد" أن الخنادق التي حفرت حول المدن أو التي يتم حفرها تخالف عدداً من مواد الدستور العراقي التي تنص على أنّ لكل مواطن الحق في الإقامة والتنقل في أي مكان داخل العراق".

ويضيف المسؤول لـ"العربي الجديد" أن "دوافع طائفية وأخرى انفصالية عرقية تقف وراء تلك الخنادق"، مبيناً أن "القائمين على مشاريع الخنادق تلك وغالبيتهم من مليشيات الحشد وأحزاب دينية معروفة بولائها لإيران تمكنوا من استقطاع أراضي من محافظات أخرى ومدن ذات غالبية سنية وضموها إليهم مستغلين حالة انعدام الأمن وغياب الحكومة في تلك المناطق ونفّذتها بقوة السلاح".

ويتابع أن "كربلاء سرقت آلاف الكيلومترات من صحراء الأنبار الغنية بالفوسفات والغاز على طول حدودها المشتركة. وبابل سرقت أكثر من 8 آلاف كيلومتر من عامرية الفلوجة. وبلد والدجيل التي تقع داخل صلاح الدين سرقت أكثر من 40 بستاناً مجاوراً لها تابع لسامراء والضلوعية وضمتها إليها. فيما نالت البشمركة من القرى والبلدات العربية حصة كبيرة بأكثر من 22 ألف كيلومتر ومئات الهكتارات الزراعية. وابتلعت بغداد قرى المحافظات المحيطة بها، وكذلك فعلت بابل مع مدينة جرف الصخر والإسكندرية والبحيرات شمالي الحلة ذات الغالبية الطائفية المعروفة"، على حدّ تعبيره.

ويبيّن أن إقليم كردستان هو الآخر يحفر خندقاً يبدأ من ربيعة مع سورية وينزل باتجاه كركوك، ثم طوزخورماتو وسليمان بيك ليقطعها عن محافظة صلاح الدين، مؤكداً أن "عدداً كبيراً من المدن بات محدد الملامح بالخنادق. وإذا ما عدنا إلى خارطة تلك الخنادق سنجدها تبدأ من النخيب مع الحدود السعودية التي ابتلعت عبر الخندق نزولاً إلى حدود عامرية الفلوجة مع بابل، وتواصل مع بغداد لتلف إلى صلاح الدين ثم كركوك، وهذه حدود لخارطة طائفية تحاول المليشيات رسمها لتقطيع أوصال البلاد أو حصر المكون الآخر وتحجيمه بعد سرقة أجزاء من أراضيه. كما أنّ الطريقة ذاتها يستخدمها الأكراد في نينوى، وديالى، وصلاح الدين، وكركوك".



وعلى الرغم من دفاع أعضاء التحالف الوطني وقادة المليشيات عن فكرة الخنادق كحماية من تنظيم داعش، يرفضون خنادق كردستان الذي يعلن هو الآخر أنها حماية من التنظيم. في هذا السياق، يقول القيادي بتحالف القوى العراقية رعد الدهلكي لـ"العربي الجديد" إن الخنادق خطوة إضافية لتقسيم العراق". ويضيف أنّه "في حال كانت الخنادق حماية أمنية فهي طريقة بدائية وتدل على ضعف الجيش والأجهزة الأمنية، وإن كانت لفصل محافظة عن أخرى، فهي مرفوضة وهي خطوة أخرى نحو تقسيم البلاد". ويلفت إلى أنّ "هذا ما بتنا نخاف منه وقرعنا قبل أيام ناقوس الخطر من أن تكون خنادق المليشيات والجيش تلك ترسيم حدود لتقسيم العراق على أساس طائفي وعرقي".

من جهته، يرى النائب العراقي طلال الزوبعي أنّ "الأمن لا يتحقق بوسائل تعود للقرون الوسطى". ويقول الزوبعي لـ"العربي الجديد" إنّ "إصرار الحكومة على الاستمرار بحفر الخنادق سيؤدي إلى زيادة النزاعات الطائفية والعرقية، ويجعل من العراقيين سجناء داخل هذه الخنادق، فضلاً عن أنّها لا تسهم بتحقيق الأمن". ويشير إلى أنّ "هذه الخنادق تعكس عقليّة حكام العراق ومدى تفكيرهم وتخطيطهم"، مضيفاً أنّ "هذا التفكير يزوي المحافظات داخل كانتونات لنجد نفسنا أمام حدود دوليّة بين محافظات متنازعة مستقبلاً".

ويرى مراقبون أن العراق بات مهيّأ بشكل كبير للانقسام، وتقطيع مدنه عن بعضها البعض دليل خطوات على ذلك. ويلفت المحلل السياسي محمد أمين إلى أن "هناك تياراً سياسياً داخل العراق يدفع باتجاه إقناع الشارع بأن تقسيم العراق أو تحويله لأقاليم هو الخيار الوحيد لإنهاء الصراع الدامي"، مبيناً أن "وسائل إعلام وفضائيات تابعة لسياسيين بدأت تصوّر سكان محافظات أخرى على أنهم قتلة وكفار وهي صفات تسعى من خلالها للتقسيم وقبول الشارع بفكرة الانفصال"، على حدّ تعبيره.

ويشير إلى أن استغلال ضعف المحافظات الغربية والشمالية، حالياً، سياسياً وأمنياً وشعبياً، فضلاً عن سرقة أراض منها وضمها إلى محافظات ما باتت تُعرف بـ"معاقل المليشيات والأحزاب الموالية لإيران"، هو بحد ذاته معيب، مطالبا الولايات المتحدة بعدم الاكتفاء بالتفرج على ضياع العراق تحت أوجه عدة وأن تبقيه موحداً كما كان قبل احتلاله"، وفقاً له.


ذات صلة

الصورة
الحريات في العراق

سياسة

إتاحة الحريات في العراق ما بعد صدام حسين كانت من شعارات غزو بلاد الرافدين. لكن منذ سنوات يتراجع منسوب الديمقراطية والحريات الفردية والجماعية في هذا البلد بسرعة.
الصورة

مجتمع

فجر الحادث المروع الذي وقع بمحافظة البصرة، جنوبي العراق، أمس الثلاثاء، وأودى بحياة 6 أطفال وأصاب 14 آخرين، موجة غضب شعبية واسعة في البلاد..
الصورة
أبو تقوى السعيدي (إكس)

سياسة

أسفر استهداف طائرة مسيّرة مقراً لفصائل "الحشد الشعبي" يتبع لـ"حركة النجباء"، عن مقتل المسؤول العسكري للحركة مشتاق طالب علي السعيدي المكنى "أبو تقوى".
الصورة
قاعة الأعراس في الحمدانية في نينوى في العراق 1 (فريد عبد الواحد/ أسوشييتد برس)

مجتمع

أعاد حريق قاعة الأعراس في محافظة نينوى العراقية الذي خلَّف مئات القتلى والمصابين، ليلة أمس الثلاثاء، مشهد الحرائق المتكرّرة التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة والتي خلّفت مئات القتلى والجرحى.

المساهمون