رياح كوبنهاغن السامة

رياح كوبنهاغن السامة

01 مارس 2015
+ الخط -

لم يكن كل شيء هادئا قبل أن تخترق 28 طلقة بندقية، مسروقة من منزل أحد متطوعي "الدفاع المدني" في الدنمارك، برودة أجواء الشمال الأوروبي لتصيب سخونتها كلاً من كوبنهاغن واستوكهولم.
الهدوء الذي جرى تسويقه قبيل أن تعقد ندوة عن "حرية الرأي والتعبير"، ليس بعيدا عن وسط العاصمة الدنماركية، كان سطحيا ليرضي غرور سياسيين ومتخصصين يرون كل الأمور من ثقب "الأمن" وليس مما يشعر به جيل من أبناء المهاجرين من تمييز منطوقه "نحن الأغلبية وهم الأقلية". وفي تفاصيل التشريعات والقوانين تهيمن نظرة "المجتمع الأحادي المتجانس"

استوكهولم طالتها طرطشة تلك السخونة حين كان رسامها المثير للجدل لارس فليكس، ضيف تلك الندوة بحراسة رجال استخبارات بلاده وكوبنهاغن. السفير الفرنسي يجلس ليؤكد بأن "شارلي إيبدو" شكل منعطفا تقاس عليه "الحريات". لكن أية حريات؟
ندوات النخب هي تلك التي يلتقي فيها حفنة من هؤلاء تكون في معظمها لـ "تشريح الإسلام" وفكفكة "شيفرة تطرف الشباب".
واقع الحال يقول إننا منذ قضية "الرسوم الكاريكاتورية المسيئة" المتفجرة مع الصحيفة الدنماركية، يولاندس بوستن، منذ عشرة أعوام بالتمام والكمال، نشهد نوعا آخرا من "الإسلاموفوبيا" استنادا على خرافة "إنهم يريدون أسلمة مجتمعاتنا".
واقع يعرفه من أقام عقودا من الزمن في مجتمعات لم تكن أقل ترحيبا بمواطنيها الجدد مما هي عليه اليوم، بل ولكأننا منذ عقود، حين انصرفت هذه المجتمعات الشمالية، وبالأخص الدنمارك من عام 1974، عن "استيراد اليد العاملة" لفترة ما بعد الحرب "العالمية الثانية" من المغرب العربي إلى مشرقه ويوغسلافيا وتركيا إلخ، ونحن نشهد تصاعد حركات اليمين المتشدد، تمحص بحثا عما يشرعن أيديولوجيتها، التي تصل حد الفاشية في بعض صراخها عن "الغرباء والأجانب".
لسنوات قليلة ماضية كان بعض هؤلاء يعاني من مشاكل في القدرات الاستيعابية لأسباب تتعلق بماضي العائلة ربما، لكنهم قلة، لم يجرِ الانتباه لهم إلا أخيرا. وبعد أن يجري التسرب من المدارس ويفشل نظام الرفاهية في فرض تعميم المواطنة على الجميع سنجد أنفسنا أمام بحث آخر عن هوية.
لا يحتاج الأمر لكثير من الذكاء لاكتشاف أوجه الخلل. لكن بأية أدوات يجري مواجهة ذلك الانفلات؟
أولا، لدى عوائل كثيرة، من ثقافات وخلفيات متعددة، وخصوصا عند جيل الآباء، أساليب تربية تعتمد على ما ورثوه من المجتمعات التي ما يزالون يتخيلونها، كما لم تتغير من ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
كثيرة هي الحالات التي جرى حماية الأطفال فيها من فشل أساليب تربية الأهل لأطفالهم، وبين المهاجرين واللاجئين العرب تنتشر قصص: إنهم يسرقون أولادنا!
لنا أن نتخيل حجم المأساة التي تحفر عميقا عند هؤلاء الأطفال الذين يعاملون كمسببين لمشاكل التنقل بين عوائل الرعاية المتعددة نتيجة سوء الفهم بين الأهل وموظفي البلديات.
بعض المدارس يسحب منها أولياء الأمور أطفالهم إذا ما تعدى عدد أطفال "الدنماركيين الجدد" نسبة معينة، هؤلاء أطفال ولدوا في هذه المجتمعات، فماذا تكون النتيجة؟
صراخ يميني عن "الغيتوهات". فمن يخلقها؟
لا إجابة سوى بمزيد من التحريض على "إغلاق تلك المدارس وتوزيع التلاميذ الصغار على أخرى". حلقة مفرغة مرة أخرى، تدني مستوى التعليم. والسبب يلقى على كاهل تكاثر هؤلاء الأطفال "الجدد".
إذاً ماذا يختار بعض تلاميذ الصفوف الابتدائية، وهم يرون كيف يُلقى بهم بين مدرسة ضاحية وأخرى، في دولة الرفاهية وأكثر أنظمة التعليم تقدما؟
ماذا يقول الشباب من "الدنماركيين الجدد" عن واقعهم؟
يقول عبد الرحمن، 22 سنة، المولود لأب عربي وأم دنماركية في مدينة روسكيلدي غير بعيد عن كوبنهاغن: "كنت أحلم بدخول الجامعة في مدينتي، بدأت مشاكلي مع تشخيص متأخر لمعاناتي من أعراض أي دي اتش دي المتعلقة بنقص الانتباه وفرط الحركة. ظنوا بأن الأمر متعلق بتربيتي، لكن الأمر ليس كذلك وكانت أمي تكافح لتشرح لهم في المدرسة معاناتي. انقلبت حياتي في الصف العاشر، كنت من ثقافتين مختلفتين، تغلبت على ذلك رغم كل شيء، أنا نصف عربي ونصف دنماركي من ناحية أهل أمي، ولكنني في الغالب كنت لا أعرف بلدا غير هذا البلد. ذهبت ذات يوم مع أصدقائي وصديقاتي كمراهق لدخول ملهى ليلي (مرقص) غير مخصص للكبار. صدمني منع دخولي بسبب اسمي ولون بشرتي. انتقلت في الثامنة عشر من عند أهلي إلى ضاحية في كوبنهاغن، هناك عرفت بأن هويتي العربية هي الأقرب لي. فرفضي في الحياة الليلية والاستماع إلى تعليقات عنصرية جعلتني أكثر بعدا عن كل شيء في مراهقتي له علاقة بالمستقبل. تورطت في مشاكل كثيرة، لم يكن الموظفون يعاملونني كدنماركي بل "كمهاجر من الجيل الثاني". عبد الرحمن هو اليوم يحاول أن ينهي الثانوية العامة عله يدخل الجامعة كما رغب بعد قضاء سنوات متنقلا بين أعمال وغضب على مجتمعه.
أما "محمد شوقي" وهو في الـ35 يقول: "حضرت إلى هنا بعد أن أنهيت دراسة الهندسة في بلغاريا. تقدمت بمئات الطلبات لكي أتوظف في مجال دراستي. لم أتلقَ معاملة إيجابية ولم يقبلوا شهادتي، بينما يستوردون يدا عاملة من دول أخرى. انظر ماذا أعمل اليوم. أنا يا عزيزي بائع خضار، ليس إلا".
خريج علوم اجتماعية حضر من لبنان قبل 15 سنة، يرفض أن نكشف عن اسمه، يقول: "السياسيون هنا كذابون، يثرثرون كثيرا عن الاندماج، يحضرون لنا أسئلة المستحيلات من 40 سؤالا للحصول على الجنسية، ورغم أن زملاءنا الدنماركيين الأصليين لا يستطيعون الإجابة عنها، نجيب نحن عنها بعد أن نتعلم تاريخ وثقافة البلاد. وحين نتقدم إلى العمل بوظيفة تتعلق بالشهادة الجامعية نقف أمام رفض، ليس فقط من القطاع العام، بل الخاص أيضاً. هم لا يقولون لك بناء على اسمك وخلفيتك نرفضك، لكن ما هو هذا القاسم المشترك بين مئات وآلاف الحالات التي تنهي دراستها ولا تحصل على وظيفة، بينما يحصل غيرنا ممن تخرج بعدنا؟ عملي اليوم كما ترى، سائق تكسي".
ينهي خالد دراسة جامعية في كوبنهاغن، يتقدم بطلبات توظيف، لا يحالفه الحظ. ينظر أخوه الصغير إليه كمثل أعلى، وبغضب يقول: "أنت تلحّ علي لكي أدرس، فماذا أعطوك من عمل بعد انتهاء دراستك كمحام؟". خالد ليس لديه صفة اليوم سوى تقديم استشارات للاجئين.
هل تبرر تلك الأمثلة، وهي غيض من فيض، ما جرى في كوبنهاغن؟
أبدا، يقول أصحابها بأنفسهم. لكنهم يتساءلون في الوقت ذاته: كيف يجري الفشل الرسمي في إيلاء الدمج لمواطنين مولودين هنا، الأهمية التي يجب ألا تفرق بين مواطن وآخر ثم يركزون على حالات الفشل فقط لا غير؟ ومن ثم يحمل مجتمع المهاجرين مسؤولية أفعال قلة قليلة تخالف القوانين.

نقطة أولى نحو الفشل
لم يكن لعمال المصانع والبناء من المهاجرين العرب الأوائل وقت إلا للعمل فحسب، تعلم اللغة لم يكن أولوية في ورشة بناء أوروبا وما تهدم منها. لمّ شمل العائلات، الزواج، إحضار الأطفال، والتكدس في مجمعات سكنية معينة تفوح منها روائح
الشرق، الذي كان يُرى ساحرا، في طعامه، من زيتونه وزيته وجبنته وبهاراته وأطباق زوايا المطاعم الصغيرة.
لا تختلف قصة الدنمارك، كمعبر إجباري نحو دول الشمال الاسكندنافي، السويد والنرويج، عن قصة عمال إعادة بناء ألمانيا مثلا، إلا في تأخر الظهور اليميني المتطرف وشرعنته في الأخيرة تحت مظلات أحزاب لم ينس بعضها "آرية" العرق الألماني منذ عهد بسمارك.
التنافس الحزبي في دغدغة المشاعر القومية بقراءة "هيموجينية" استعلائية فجّر كارثة أحادية الثقافة. ليس غريبا في غمرة الاندفاعة التاريخية أن نقرأ محددات الهوية الثقافية والحضارية عند سياسيين، منهم من رحل كموينز غليستروب الذي كان الأب الروحي لاستفزاز العمال الأجانب بتسميتهم في سلة واحدة "محمديين"، حتى لو كانوا يوغسلافيين، إلى خليفته بيا كيرسغوورد التي يعرفها كل شاب تحدر من أصول مهاجرة.
هوية تقوم في جدليتها حتى في عام 2015 على مناقشة سقيمة: على هؤلاء تناول طعام الخنزير في وجباتنا الشعبية ليثبتوا أنهم مندمجون!
هذه السطحية في قراءة الاندماج الثقافي والحضاري لوثت منذ عقود جدية النقاش حول أجيال متعددة في مجتمع يعيش زمن العولمة لكن بثياب القرن الثامن عشر.
تحت وطأة صحافة صفراء واندفاعات يمينية نجد اليوم، وبناء على تراكمات من التشنج التاريخي بين الرفض والقبول، مجتمعات الهامش. لم يتغير الكثير في بعض التسميات سوى "الدنماركيون الجدد"، لكن بمحتوى عرقي وإثني وديني.
يقول أحد علماء النفس لـ "العربي الجديد": "ليس عبثاً أن يخرج بيان الشرطة الأول، ليقول إنه يبحث عن شخص بملامح عربية. هذا أمر يعرفون ما سيشكله عند المتلقي الجاهز لاستقبال التعميم".

المساهمون