خلفاء «غوبلز» في الإعلام المصري

خلفاء «غوبلز» في الإعلام المصري

08 يونيو 2015
+ الخط -

في الساعة الواحدة من صباح يوم السبت 17 يونيو/حزيران من عام 1972، اكتشف أحد حراس الأمن، عملية اقتحام للعقار المكلف بحراسته، والذي يضم مقر رئاسة الحزب الديمقراطي الأميركي، تم القبض على المتهمين الخمسة متلبسين، اعترفوا أمام المحكمة باقتحام المبنى بغرض السرقة، وكان من الممكن أن تنتهي القضية عند هذا الحد كغيرها من قضايا السرقة، التي تتناولها المحاكم الأميركية كل يوم، إلا أن ظهور صحافيين -لم ولن ينساهم التاريخ الأميركي- غير مسار القضية نهائياً.

لاحظ أحد الصحافيين أن واحدا من هؤلاء المتهمين، كان يعمل لدى جهاز الاستخبارات الأميركي، تتبع الأموال المدفوعة في عملية الاقتحام، وتتبع الأموال المدفوعة للمحامين المكلفين بالدفاع عن المتهمين، ليكشف وزميل له، خلال تحقيق صحافي وجود صلة لبعض من أصحاب المراكز المهمة بالقضية، بعضهم كان من موظفي البيت الأبيض، وآخرون من لجنة إدارة الحملة الانتخابية للرئيس، ويتم توجيه الاتهام لاثنين من ذوي المراكز الهامة كمحرضين على العملية ويتم الحكم عليهم، بالإضافة إلى المتهمين الخمسة الأصليين بالسجن.

بالرغم من هذا لم يتوقف الصحافيان عن البحث وراء القضية، متتبعين مصدرا تلو الآخر، مع نشر كل نتيجة يتوصلان إليها أولا بأول، متحدين كل الضغوط التي تمارس عليهما وعلى الصحيفة التي يعملان بها، حتى نجحا في الضغط على كل مراكز الحكم في الدولة بإعادة فتح القضية وتوسيع دائرة الاتهام، بعد أن حققا تقدما مبهرا في القضية فاق ما حققته المباحث الفيدرالية نفسها، ليتوصلا إلى أن هذه القضية ما هي إلا طرف خيط لعملية تجسس كبرى قامت بها شخصيات وأجهزة حساسة بالدولة وبالحزب الحاكم، فضلاً عن أنها كشفت الستار عن أن تمويلها كان من خلال أموال التبرعات المخصصة للحملة الانتخابية للرئيس، لتزيد الضغوط من قبل النظام والأجهزة الأمنية عليهم، فما زادهم ذلك إلا إصراراً على إكمال تحقيقهما، حتى نجحا في تحريك الكونغرس ضد الرئيس نفسه، الذي حاول استخدام صلاحياته في إخفاء بعض الأدلة تحت دعوى الأمن القومي، فينتصر القضاء لهما ولتحقيقهما ويأمر بتسليم الأدلة كاملة للكونغرس، لينتهي المشهد باتهام الرئيس الأميركي وعدد كبير جدا من مساعديه وعدد كبير من الشخصيات الهامة، كان أبرزهم المدعي العام.

تبقى «ووترغيت» أشهر التحقيقات الصحافية في العالم، والتي كان من نتائجها أول استقالة لرئيس أميركي في التاريخ ومحاكمة عدد كبير من الشخصيات الهامة في النظام الحاكم، فضلا عن سن تشريعات جديدة تعزز من الشفافية داخل الحملات الانتخابية، وخاصة الشق المتعلق بأموال التبرعات، وأخرى تعزز من حرية تداول المعلومات، ليضرب الصحافيان «بوب وودورد، وكارل برنستين» ومن ورائهما رئيس التحرير «بن برادلي» وصحيفة الواشنطن بوست، كيف يمكن للإعلام المهني أن يكافح الفساد، وأن يصبح عين المجتمع إذا توفر له الدعم والحماية الكافية.

إعلام بلا ضمير

في ليلة الثامن والعشرين من شهر فبراير/شباط عام 1933، شب حريق في مبنى البرلمان الألماني «الرايخستان»، طال قُبته وقاعة الاجتماعات الرئيسية وبعض الغرف، وتم توجيه الاتهام المباشر لشاب هولندي تم القبض عليه في محيط المبنى، وكان يمكن أن يمضي هذا الحدث كغيره من الأحداث، وأن تكتمل القضية كأي عمل تخريبي يُحاسب المتسبب فيه أمام محاكمة عادلة، إلا أن شيطانا ما لم يُرِد أن يمر هذا الحدث في سلام.

تلقف هذا الشيطان صورة النيران وراح يجوب بها على أدمغة وعقول الناس، حتى أدخلهم في دائرة من الخوف والفزع، استطاع بها أن يسيطر على عقولهم مستخدماً كل وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة، وأن يُعيد تشكيل الوعي العام ببث الكراهية والعداء ضد كل المعارضين السياسيين، وأن يصورهم على أنهم الشر الأعظم الذي يتآمر على الأمن القومي، وتحت هذا التهديد المستمر والحرب النفسية المرعبة خارت قوى العقل في المجتمع، ودخلت البلاد في غيبوبة من الرعب والفزع، استطاع من خلالها النظام الحاكم أن يُمرر كل القوانين والقرارات والإجراءات الاستثنائية العاصفة بالحريات والمصادرة للحقوق، فانتهكت حرمة المنازل، وتم إلغاء السرية على المراسلات وتقييد حرية الرأي والتعبير والتجمهر والتظاهر، وإلغاء الأحزاب السياسية، ليستقر العام في قاع مظلم لم تخرج منه البلاد إلا بعد هزيمة نكراء في حرب طاحنة، فقدت بسببها قرابة 6 ملايين مواطن في معسكرات إبادة جماعية، و7 ملايين آخرين خلال الحرب ونحو 11 مليون أسير، كل هذا بالإضافة إلى أكثر من 60 مليون ضحية حول العالم - وفق التقديرات1 - من جراء تلك الحرب، التي لولا شيطان غسيل الأدمغة «جوزيف غوبلز» ما كان لها أن تحدث.

وضع غوبلز دستوراً للحرب النفسية وعلم تغييب الشعوب، يبدو ذلك في عدة أقوال له، خلدها التاريخ كواحدة من أعظم الشرور التي عرفتها البشرية، منها «اكذب حتى يصدقك الناس، بالغ في كذبك، فكلما كبرت الكذبة سهل تصديقها، أعطني إعلاما بلا ضمير أعطك شعبا بلا وعي»، ليبقى رمزاً تاريخياً لما يُمكن أن يصنعه الإعلام الفاسد بالشعوب.

مصر على طريق غوبلز

«دلوقتي فيه قيادي إخواني اسمه محمد أبو سمرة كاتب إن فيه تقارب بين الاشتراكيين الثوريين و6 أبريل، ولازم كل التوك شوز يتكلموا عن الموضوع، كده الاشتراكيين الثوريين و6 أبريل مع الاخوان، علشان لما الحكومة تاخد موقف والداخلية تقبض على حد فيهم ما يجيش حد يقول حقوق الانسان والكلام ده، عايزين يا ريس نعمل ده علشان البلد علشان الوطن، علشان خاطر مصر». الكلمات السابقة جزء من مكالمة مستشار رئيس الوزراء للصحافي المصري محمد الجارحي، رئيس تحرير أحد البرامج السياسية، تعبر كلمات المسؤول عن الطريقة التي يدار بها الإعلام في مصر، ولكن حظ المستشار العاثر أن الزميل لم ينصع إلى توجيهات سيادة المستشار، وإنما قام بفضحه من خلال إحدى مقالاته2.

لم يكن تصرف المستشار غريبا ولا جديداً على الإعلام المصري، إذ إن ذلك النظام في التعامل مع الإعلام، متبع منذ أكثر من 60 عاماً ولعل قصة رواها أحد الإعلاميين المصريين، فضل عدم ذكر اسمه، توضح الأمر أكثر، يقول الإعلامي إنه بينما كان يُقدم برنامجا عبر أحد الفضائيات، قبل ثورة يناير، كان يغلب عليه انتقاد السلطة في مصر، وقتها اتصل به أحد لواءات أمن الدولة، ليُعاتبه على الانتقاد الدائم للنظام المصري، وليعرض عليه تبسيط الأمور والتعاون فيما بينهم، مقدماً له عربوناً سخياً لهذا التعاون، عبارة عن معلومات هامة عن إحدى الفتيات المسيحيات التي يتهم السلفيون قيادات الكنيسة باختطافها بعد أن أسلمت، والتي تصدرت قصتها المشهد الإعلامي والرأي العام المصري، مؤكدا أنه سيُطلعه كذلك على مكان اختفائها ليقتنص لبرنامجه سبقًا صحافيًا كبيرا.

بعد أن قوبل العرض بالرفض، انفعل اللواء المتصل على الإعلامي، بالتهديد والوعيد قبل أن يُنهي الاتصال، وبعد ساعات من تلك المكالمة، اندهش من تقديم إعلامي آخر اشتهر عنه معارضة النظام بتقديم حلقة عن تلك الفتاة، ويعرض تلك المعلومات التي عرضها عليه اللواء.

تفصح المكالمة المسربة لمدير مكتب السيسي اللواء عباس كامل، عن أكثر مما كنا نتخيل، إذ أوضحت أن الكثير من الإعلاميين ليسوا "متعاونين" فقط، وإنما أقرب إلى الموظفين عند الجهات الأمنية أو ما يطلق عليه الأذرع الإعلامية، يقولون ما يملى عليهم نصا بنص وحرفا بحرف، حتى وصل حال العلاقة بين تلك الأجهزة وهؤلاء الأذرع إلى حدود ما بعد الخيال، فيخرج ذراع من تلك الأذرع يفتخر على الهواء مباشرة بعمله لحساب أجهزة الأمن، دون ذرة خجل، وترد الأجهزة عليه بما هو أعجب، وهو الامتناع3 عن تنفيذ حكم قضائي بحبسه4، بل والأدهى من ذلك هو اصطحاب رئيس الدولة نفسه له في سفرياته رغم أنه مطلوب للعدالة5، في الوقت الذي تتم مطاردة وملاحقة ومنع العديد من الإعلاميين الذين اشتهروا بالمهنية والصدق6.

الأهمية والخطورة التي يمثلها الإعلام للأمم أعظم من أن تترك في يد أصحاب النفوذ والمصالح، فالإعلام هو عين المجتمع على سلطاته، لذا فقد أعطته الدول التي تُريد أن تنهض الاستقلالية والحرية ليبحث وينقب عن الثغرات ومواطن الضعف والمرض داخل المجتمع، تسهيلا عليها لإصلاحها، ليُصبح الإعلام القوي والدولة القوية متلازمين لا يفترقان، وهو الطريق الذي يجب أن تسلكه مصر إن أرادت أن تنهض حقا.

----
مراجع

1-   خسائر الحرب العالمية الثانية http://goo.gl/JE7AY1         

2-   مقال أ. محمد الجارحي http://yanair.net/archives/57287

3-   الداخلية: لن نقبض على أحمد موسى http://goo.gl/sWA2fb

4-   حكم حبس أحمد موسى      http://goo.gl/Xdjokk

5-   سفر أحمد موسى لألمانيا http://goo.gl/qDjCHistv  

 جهات سيادية تمنع إذاعة برنامج ريم ماجد     http://goo.gl/tW2nJG