عبرة من بوابة البيمارستان النوري

عبرة من بوابة البيمارستان النوري

19 مايو 2015
+ الخط -
مرّت دمشق في تاريخها المديد بفترات ازدهار وفترات انكسار في حضن الدول والامبراطوريات المختلفة التي تتابعت عليها. ففي بداية الحقبة الإسلامية أضحت عاصمة العالم، أو كما غنّت فيروز من شعر سعيد عقل عن أمويّيها أنهم "ألحقـوا الدُنيا بِبُسـتانِ هِشَـامْ". ثمّ عانت المدينة من إهمال عباسي متعمَّد، تلاه صراع بدوي - دولتي طويل أمسكت الدولة الفاطمية بزمامه لفترة قبل أن تتراخى قبضتها، وتقع دمشق تحت رحمة سلسلة من الحكام الأتراك هادن آخرهم الصليبيين الذين جاؤوا في نهاية القرن الحادي عشر واحتلوا الساحل بمجمله من ثغور كليكية إلى غزة. لم يعِ حكّام سورية مدى الخطر الصليبي إلا متأخراً. وأضاعوا الكثير من الوقت في صراعاتهم الداخلية، قبل أن ينهض أمير تركي مقدام، عماد الدين زنكي بن آقسنقر، بمهمة استعادة الأرض من الصليبيين، ليخلفه في المهمة بعد اغتياله عام 1146 ابنه نور الدين محمود بن زنكي، القائد الحقيقي لعملية الاستعادة التي توجها صلاح الدين الأيوبي في ما بعد.
وحّد نور الدين سورية الداخلية، وأنشأ جيشاً كبيراً مكوّناً من عرقيات مختلفة جمعها سويةً حماسها لاستعادة الأرض المقدسة من الإفرنج. نقل العاصمة من حلب إلى دمشق، ومنح المدينة ازدهاراً ومنعة لم تشهدها لقرون أربعة طوال، وسيجها بالحزم والعدل، وبنى فيها العديد من المباني المهمّة، كالقلعة ودار العدل والمدرسة النورية الكبرى، التي تشهد على سعة أفقه وشمولية برنامجه الإصلاحي. لكن واحداً من أروع مآثره المعمارية، البيمارستان النوري الذي بناه عام 1154، والذي يعدّ بحقّ مؤسسة طبية وخيرية متكاملة ألهمت البيمارستانات اللاحقة من الأناضول إلى مصر، يقدّم لنا في عمارته عبرة نحن بأمس الحاجة إلى تذكرها اليوم.
اتبع البيمارستان في مخططه، نموذج مخطط المدرسة الذي أتى به السلاجقة من خراسان إلى سورية، بأواوينه الأربعة حول الباحة السماوية، تحيط بها أجنحة مختلفة اختفى معظمها اليوم. لكن العنصر الأكثر فرادة في المبنى كلّه، هو بوّابته الخارجية التي تميّزت بلغة معمارية مبتكرة، اختزلت في تفاصيلها وفي سيرة حياة مبدعها، التراكم الحضاري على أرض سورية من الفترة الهلينستية إلى عصر الإسلام الوسيط.
أوّل ما يطالعنا في المدخل هو ثنائية تشكيلية غير معهودة. ففوق فتحة الباب هناك عنصران إنشائيان ينتميان لثقافتين معماريتيين متباعدتين في الزمن. الأولى هي القوصرة الكلاسيكية التي تتوّج الباب فوق صفّ من الزخارف النباتية، وصفّ آخر من زخرفة البيضة والسهم. هذه القوصرة الحجرية، التي تعود إلى الفترة ما بين القرنين الثالث والسادس، معادة الاستعمال من واحد من المباني الرومانية الدمشقية غالباً، وإن كانت إعادة الإستخدام هذه حساسة لقيمة المنحوتة الفنية قطعاً لأن القوصرة مثبتة في مكانها الطبيعي، وإن كانت أكبر بقليل من فتحة الباب من جهة اليسار. وفوقها تتوضع حنية مرتفعة ومنحوتة في الجص، تتكوّن من تسع مداميك من مقرنصات الورقة المجوّفة فوق صفّ من المحاريب، سباعية الفصوص وتحت محارة مضلعة. حنيات المقرنص تلك، ابتكار إنشائي جديد جلبه السلاجقة من الشرق في القرن الحادي عشر وأصبحت الزخرفة المنشودة على عهد نور الدين. أي أن مصمّم البوابة، قرّر دمج عنصر من التراث الكلاسيكي مع أشدّ العناصر التزيينية الإسلامية جدّة في زخرفة البوابة، قاصداً ربما الإيحاء بارتباطهما أو باستمرارية فنية ما بينهما عبر عشر قرون.
لم يقتصر الترميز التاريخي على تشكيل البوّابة، بل تعداه إلى زينة مصراعي الباب الخشبيين المصفحين بالنحاس، اللذين زخرفهما بمسامير نحاسية مرتبة، وفق تشكيلات نجوم مخمسة ومسدسة متقاطعة كشبكة عنكبوتية أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن عبد الرَّحْمَن الْحَارِثِيّ، المعروف بالمهندس (1134-1204). هذا الرجل الذي أفرد له ابن أبي أصيبعة ترجمة وافية في كتابه الشهير "عيون الأنباء في تراجم الأطباء" بدأ حياته حجاراً ثم نجاراً في دمشق، ثم ترقّى في المعرفة بدراسته لكتاب إقليدس الشهير "كتاب العناصر"، الذي تُرجم إلى العربية في بدايات القرن التاسع، وكان يعدّ أهم كتاب في الهندسة حتى القرن التاسع عشر. درس الحارثي أيضاً كتاب بطليموس المجسطي في الهندسة والفلك، وقرأ الطب في كتاب جالينوس حتى أصبح مدرّساً للطب في البيمارستان، بالإضافة لشهرته كمهندس للعديد من المباني المهمة في دمشق.
لدينا في الحارثي دليل مهمّ على العلاقة بين الهندسة النظرية والزخرفة الهندسية التي انتشرت في العمارة الإسلامية كواحدة من أهم أساليب التعبير المعماري. ولدينا فيه أيضاً وفي خياراته في القراءة والتمحيص، دليلٌ على الاستمرارية المعرفية المباشرة بين علم الأقدمين الأغريق وتطبيقات المسلمين وتنويعاتهم على ذلك العلم، وعلى ما يتفرع عنه من فنّ وزخرفة وتشكيل. والحارثي ليس الوحيد الذي طبّق ذلك في عمارة نور الدين في دمشق وغيرها من المدن سورية، مثل قسطل الشعيبية في حلب، وجامع حرّان الكبير، مما أسماه بعض المؤرخين عمارة "الإحياء الكلاسيكي" بسبب العناصر الكلاسيكية، أو "المكلسكة" مع تأثيرات إسلامية، الواضحة في تفاصيلها، ولو أنها برأيي، كما رأى ياسر طباع، عمارة "استمرار كلاسيكي". هذا الرأي يدعمه استخدام الحارثي للمصادر الهندسية الأغريقية مباشرة في تحسين صنعته. وقد سار الأيوبيون على نهج نور الدين في عمارتهم في أرجاء سورية التي عاشت أزهى عصورها المعمارية في عهدهم، على الرغم من تفرّقهم واضطراب سياستهم.
في باب البيمارستان هذا إذن تذكير وعبرة في أن الإبداع لا يعترف بحدود ثقافية، وأن التواصل المستمرّ مع السابقين، كلّ السابقين وإن اختلفت ديانتهم ولغاتهم ومشاربهم، دليل عافية ثقافية بل ثقة بالنفس ثقافية لا تهاب الآخر المختلف عندما يكون لديه معرفة وعلم وفنّ، بل تأخذ منه وتبني عليه في سلسلة الإبداع الإنسانية المستمرّة التي شارك فيها أجدادنا مشاركة قيمة وتقاعسنا اليوم عن استكمال ذلك المشروع الحضاري المنير.

المساهمون