زيارة لممدوح عدوان

زيارة لممدوح عدوان

26 ابريل 2016
لوحة للفنان بيتر سيكلس (Getty)
+ الخط -
بعد عام تقريبًا يكون قد مرّ نصف قرن على التعبير "السياسي" : الجولان المحتل. لا داعِ لتذكّر ما فعله بنيامين نتنياهو مؤخرًا، وقد أخذ "حكومته" إلى الهضبة، وهناك أعلن أن الجولان جزء من إسرائيل وإلى الأبد. فرئيس وزراء الاحتلال أراد "إيصال رسالة"، وأراد للرمز في عمله الاحتلالي أن يصير رمزًا لـ "سيادة" لم يكن ينقصها إلا بئس الإعلان. وفي المقلب الآخر، أي الأجوبة على "الرسالة" التي وصلت منذ زمن بعيد، يستعيد "الرسميون السوريون" من المعلقين السياسيين، والسياسيين بالطبع، القول بسورية الجولان، وإنه جزء لا يتجزأ من الوطن. وفي كلا الخطابين، يتعرّف السوريون للمرّة الألف إلى اللغة الخشبية البعثية، التي كانت من أقوى وسائل إخضاعهم.

ففي تلك اللغة، ما مرّ ذكر المكان إلا موصوفًا بـ المحتل، واقترن ذلك على الدوام بمروره في نشرات الأخبار والخطب الكثيرة، فغدا المكان السوري أدنى إلى اللازمة المفرغة من المعنى. ما فرّغ كلمة "المحتل" من معناها، تلازم الأمرين : التكرار ونشرات الأخبار والخطب.
إذ في سورية، كان ثمة نوع من "المنع الخبيث" الذي أثّر في حياتها الثقافية، من هنا لم يكن بإمكان الروائيين والشعراء مثلًا، التطرّق إلى احتلال الجولان في قصيدة أو رواية أو قصة، أو حتى أغنية مثلًا كما فعل أبناء لبنان الشقيق، وهم يترنمون بـ "الجنوب" في الأغاني والقصائد والسرد.


لكأن كل "هالة" النكسة الشهيرة التهمت الهضبة، وغطّت عليها بطرق مواربة. فمن أشطر من السوريين في المواربة وابتداع ألفاظ تقول شيئًا مختلفًا عن معناها؟ كذا غدت "القضية الفلسطينية" قوية الحضور في أدبياتنا، وطبعت مسيرة حياة غير ما مثقف سوري. هذا حق، لكن أين نكستنا؟

لكن النبش قليلًا في ما قبل "المنع الخبيث"، يصوّب البوصلة، ويسفر عن وجه سوري، أراد الاعتراف بحقيقة ما حصل، بصلف العار الذي يلف الناس. كتب قليلة حقًا. من بينها تبرز رواية السوري الجميل الراحل ممدوح عدوان، أو "عشيرة النحل" كما أبّنه محمود درويش :"الأبتر".

المقال كلّه يلف ويدور، ليصل إلى ممدوح عدوان، ففي سيرته، الصورة السورية المكسورة. ناصعة لفرط ما ألّف وترجم، ووزّع قلمه بين ميادين شتى؛ الشعر، المسرحية، الترجمة، الرواية، النقد، المقال، المسلسل التلفزيوني. نتاج يربو على الثمانين بين التأليف والترجمة، وحضور مشعّ، وحيوية لاذعة، ونكتة حاضرة، وتلك السرعة في الإجابة اللمّاحة الدقيقة.
وفي ابتداع مسارب ومسارب لقول ما يريد.


الذكي الشجاع، الفطن اللبق، يُستعاد من دون مناسبة، أو أنه، وهذا الأدقّ، حاضرٌ في الوجدان، يكفي خبر في نشرة الأخبار، ليسأل المرء؛ ماذا كان ليقول ممدوح؟
لم يعد ممدوح بيننا، لكن كلماته بيننا. كذا الخبر عن الهضبة، يأخذ السوري نحو مدينة القنيطرة التي هدّمتها إسرائيل، وتركها نظام الأسد "رمزًا" لوحشية المحتل، شيء مغلّف أيضًا ببئس الإعلان عن ولادة اللغة الخشبية إيّاها.

من القنيطرة هرّب ممدوح عدوان "نكستنا"، فكتب الشعر، ومن غير ذاك الفن أقدر على المواربة وتعدد التأويل، من دون أن يفقد "ما يريد الشاعر قوله" بوصلته.
ثمة في القصيدة عن القنيطرة "تلويحة الأيدي المتعبة، (لقاء عاجل ومفاجئ مع القنيطرة)" مقاطع صريحة عن لحظة انكسار الخارطة السورية : "هربتُ ورفقتي رجلًا/ تحدثنا عن الطقسِ الرديء وموعد المزنِ/ تحدثنا بهمسٍ/ لم يحدّق واحدٌ منا بوجه رفيقه/ كنا نخافُ تكشّف الأسرار في السحنِ". وفي القصيدة نفسها أيضًا مقطع ثانٍ :"غضضتُ الطرف في صمتٍ/ كأني لا أرى الأيدي تلوّح لي/ ولم أعرف:/ ترى كنتِ السرابَ لنا؟/ أم أنك قد حملتِ بريق ماء النهر/ ففي عينيك كانا توأمين/ مُعكّرين بحمرة من قهر".


تلك الالتفاتة المرهفة للعيون الخفيضة، تقول الانكسار و"المنع الخبيث" معًا، كذا ومن بعد أعوام، سيألف السوريون بعفوية وصفهم بـ "أبناء مملكة الصمت". لكن الأهم أن القصيدة تقول أيضًا الضحية بناسها. فهي ليست موجودة في المراثي، بقدر ما تفصح عن أهلها، وحالتهم في حالتها "الجديدة". وهذا التوحيد بين المدينة وأهلها، يرسم الصورة اللاذعة والجريئة: كيف تدافع الضحية عن الضحية؟

ذاك "المنع الخبيث"، حنّط المكان في نشرة الأخبار، واصطفى ما يريد هو من التطرّق إليه، ضمن شرط اللغة الخشبية البعثية. عطّل الحياة وأعطب الذاكرة. ومن بعد أقل من نصف قرن، جاء نتنياهو، ليتحدّث يا للمفارقة عن "الأبد". لفظٌ له رنين خاص لدى السوريين!









المساهمون