سؤال خبيث

29 مارس 2016
عمل فني للقطرية أمل العاثم(عن موقعها الإلكتروني)
+ الخط -

كما لو أنه يجب على سورية إعادة النظر وتدقيق القول في كل مصطلح سياسي اجتماعي شهير، من أجل ردّ كأس السم التي تتجرعها.
القصد هنا، أن إعلان الأكراد قيام "فيدرالية" استوجب إسالة حبر كثير، استند إلى الواقع والتاريخ والجغرافيا ومآل الأمور اليوم، وأصل "المصطلح" ومنبت سياقه، ونماذجه العديدة في العالم، كل ذلك، من أجل إظهار تهافت إعلان مماثل وعدم شرعيته. فضلًا عن نبرة تحذير من مخاتلة لفظ "الفيدرالية" وطريقة استعماله التي على ما يبدو تروّج كمقدمة لتقسيم سورية.
في المقابل، اتّضحت "عصبية كردية" تدافع عمّا يريد الأكراد عمله، ولا تنقصها في هذه المجال، "الذرائع والأسباب والموجبات". ألفاظ لا تدل على معانيها، بقدر ما تغطي أدوات حشد، وابتكار "قضية"، وإنشاء أرضية لمسار سياسي يريد أن يفضي فعلًا إلى التقسيم، بقطع النظر عن أي شيء.
الحشد حول أمرٍ ما من أجل هدفٍ بعينه، هو اللبنة الأولى في "العصبية". كذا فإن إعلان الفيدرالية، يبدو إلى حد كبير مولّدًا لعصبيتين في سورية؛ "مع" و"ضد"، من دون تبلور واضح بعد.
ثمة في إعلان الفيدرالية ما يشي أيضًا بـ"عصبية المصالح"، لو صحّ التعبير. عصبية تريد الإطاحة بأهداف مسار السنوات الخمس الماضية، وأكثر من ذلك، تريد الإطاحة بتاريخ المكان، وما يختزنه من تنوّع، يوصف اليوم، كما لو أنه المشكلة الأخطر والآفة الكبرى.
في هذا المقام، يحضر لفظ الفسيفساء. لفظ كثير الدوران، يهدف إلى التركيز على الجانب الإيجابي للتنوّع، ويشي بنوع من التكامل في التبادل والاشتراك، تظلّله وحدة بدهية، هي الأصل، وفي فلكها تدور القطع الصغيرة الملونة المختلفة.
يشبه الأمر عند تشبيهه بالفسيفساء، واستعمال لفظ المكونات بدلًا من التنوع، المقلب الثاني للمعنى، حيث المكونات هي الأصل ولا شيء يظللها بدهيًا.
ثمة في هذا المقام أيضًا، الذي يفرضه الواقع السوري المتحرك، والمليء بالانفجارات، واقعًا ومجازًا، من يستثير تفكيره سؤال مخاتل، ويطيب له طرحه دائمًا ومن دون مناسبة: "إن كنتَ أنتَ من دمشق، أزرتَ الرقة أصلًا، لتدّعي معرفة بها ووصلًا؟". وبالطبع من الممكن إبدال أسماء المدن والقرى السورية كلها في السؤال. وعلى المجيب المسكين، الذي غالبًا ما لم يتحرّك كثيرًا ويتنقل في بلده، أن يكذب ربما، ويقول نعم، ليتجنب استنتاج السائل الخبيث؛ "لا رابط لك معها إذن، فلا هوية سورية جامعة، وربما لن يكون في المستقبل بلد واحد موحّد تحت هذا
الاسم".
أمور تمشي على رأسها، مقلوبة. لذا سيكون لطيفًا مثلًا نقل الحوار إلى بلد صلد متماسك، واضح الحدود لامتحان السؤال إياه؛ فماذا لو سُئل باريسيٌ إن كان قد زار مدينة فرنسية بعيدة من العاصمة؟ أيحمل جوابه بالنفي "رقّة" وعيه الوطني إذن؟ أيؤدي ذلك إلى "تفكيك وتفتيت" للدولة؟
هذا السؤال الخبيث المتواتر، ينأى عن قصد عن كل واقع أو تاريخ، ويحلو له تسطيح الأمور، وإعلاء شأن المكونات فرادى كما لا يخفى، ثم التعلّل بلفظ حديث: الفيدرالية.
سيكون ألطف أيضًا، سؤال كل سوري عمّا إذا كان قد زار أصغر قرية أو بلدة أو ناحية في الجولان المحتل. أيصح عندها، والجواب هو لا غالبًا، فكّ الجولان عن سورية ووهبه للمحتل الإسرائيلي مثلًا؟
سؤال خبيثٌ، كما لو أن عدم التنقل والتحرك في البلد الواحد يستوجب عقوبة، هي التقسيم تحت اسم الفيدرالية مثلًا، أو أي لفظ آخر لن ينقصه المكر ولا الشر.
في خضمّ كل هذا، وخضم الحديث عن مدن وقرى "صافية العرق"، نبتت وبزغت في غفلة، وابتداع أسماء "أجنبية" لها، ومحو اسمها العربي، فلننظر إلى المكان الآن، لا إلى الخريطة التي صارت مجال تجريب لابتكار الكيانات والمكونات.
ثمة في المكان اليوم، نازحون من قراهم ومدنهم، منزّحون قسرًا داخل سورية، نتيجة أسباب كثيرة مرئية يوميًا على الشاشة الصغيرة: البراميل، القصف، التهجير القسري، إلى آخر السلسلة في درب آلام السوريين.
وماذا لو سُئلوا هم أيضًا، عن "التنقل والتحرك". أيحمل جوابهم بالإيجاب ملامح "الوحدة الوطنية" مثلًا؟
أيستطيع السؤال الخبيث، الصمود في مخيمات اللاجئين في لبنان أو الأردن مثلًا. سؤال خبيث لا يريد إلا المشاركة في أوركسترا القضاء على سورية.
المساهمون