ثقافة دؤوبة

15 مارس 2016
ستيل لايف، سيزان(Getty)
+ الخط -


بطريقة عفوية، انفتحت مقارنة تلقائية ومستمرة بين المأساة الفلسطينية التي لمّا تنتهي، والمأساة السورية المتواصلة: اقتلاع، تهجير، نزوح، قتل جماعي، اعتقال، سجن، وتدمير منهجي إلى آخر سبحة "المفردات المتآخية"، التي كانت منذ سنين خلت، "حكرًا" في اللغة العربية على الفلسطينيين كجماعة، مع أن الكوارث العربية لا تفتقر إلى الكمّ ولا إلى النوع. لأمر ما، لم تقم مقارنةٌ بين الفلسطينيين والسودانيين مثلًا من هذا المنظور، أو بين الفلسطينيين والعراقيين، أو بين الفلسطينيين واللبنانيين. وحدها سورية استأثرت بـ "نصيب الأسد" في المقارنة مع أختها؛ سورية الجنوبية / فلسطين. ربما بسبب هذا، أو بسبب "وحدة الحال" تينك، تفرّدت أيضًا سورية وحدها في اجتراح تعبير جديد للاجئ المزدوج، سليل أيامنا هذه: السوري / الفلسطيني، أو الفلسطيني/ السوري.
اجتراح التعبير، عفويٌ وتلقائي، لكنه ينسجم مع الأمس الذي نعرفه: انسداد الأفق في ظلّ غياب مطلق لأدنى درجات الحرية، وإقفالٍ أسود لأي درب محتمل إليها. الأمس الذي وجد تعبيرًا فائق الحساسية، في قصيدة محمود درويش "في الشام": "هناك عند نهاية النفق الطويل محاصرٌ/ مثلي، سيوقد شمعة، من جرحه، لتراه/ ينفض عن عباءته الظلام".
من هنا ربما يمكن إدراك كيف أن الكلمات أعلاه التي اصطُلح على وصم الفلسطينيين بها منذ عام 1948، راحت توّسع المكان للسوريين منذ عقود خلت. وإن كان توسيعٌ مماثلٌ قد تبلور واتضح منذ خمس سنوات، إلا أن السوريين " أبناء "مملكة الصمت"، أو "المحاصرين" وفقًا لدرويش، أجادوا قبل ذاك، من غير ما دربٍ، التعبير عن حالتهم من طريق الفنون والإبداع: رواية ومسرحًا وشعرًا وفنًا وسينما. وفعلوا ذلك، بشكلٍ مواربٍ وخفرٍ غالبًا، ليس بسبب الاستبداد فحسب، بل أيضًا بسبب تلك الفجاجة في التعبير وتلك المباشرة المقيتة، اللتين كانتا تطبعان قسمًا كبيرًا من النتاج "الإبداعي" الرسمي، المتذرع بـ القومية والعروبة، كمطية رائجة لذاك النوع من "الإبداع" الذي سرعان ما اجترح السوريين تعبيرًا طريفًا عنه: الإبداع البعثي.
مع ذلك، ليس ممكنًا البتة، التأريخ للإبداع السوري في النصف الثاني من القرن العشرين وإلى اليوم، بعيدًا من السياسة. إذ لطالما بدا هذا الإبداع وكأنه يمتح من المعيش. والمعيش لم يكن إلا الاستبداد. لذا كانت تتسرّب السياسة إليه، وما زالت إلى اليوم.
أمّا الجديد والمبتكر لدى السوريين، ففي تعطيلهم مقولة نقدية رائجة، تُستعمل عادة لوصف الرواية التاريخية في ظلّ الاستبداد؛ التاريخ يكتبه المنتصرون والأقوياء، لذا فإن المهمشين يكتبون تاريخًا مضادًا في لبوس رواية أو شعر أو شهادة أو مسرح أو سينما.
عطّل السوريون تلك المقولة منذ زمن؛ فـ "المنتصر" أو "القوي"، إن كان له أن يكتب التاريخ، وُصم بالاستبداد و"الإبداع البعثي" بطريقة لا عودة عنها.
روايةٌ فأخرى، وقصيدة فأخرى، وفيلم فآخر، وشهادة فأخرى، تجمّعت كلّها وترتّبت في سجادة سورية، ملونة من أسى وألم وظلم، خيوطها كقضبان متراكبة لسجن هائل لا فكاك منه، إذ تتراكب طولًا وعرضًا، كما السدى إلى اللحمة في النسيج.
من الصحيح، إن الإبداع السوري الجديد، جلا عن ألوان السجادة أكثر، لو صحّ التعبير، إلا أنه قادم، من مكان عميق وراسخ: الثقافة السورية. ثقافة دؤوبة وخفرة بالضرورة.

وقد خصصت صحيفة ليبراسيون الفرنسية عددها يوم الجمعة المنصرم 11 مارس/ آذار، للسوريين، كتحية للثورة في مناسبة سنواتها الخمس، وكرّست جلّ الصفحات للصحافة الاستقصائية، بالاعتماد على صحفيين سوريين، صقلتهم "التجربة"، من سبعة منابر سورية تمثّل صوت المجتمع المدني وفقًا لتعبير "العولمة والتأنق"، والأدق إنها تمثّل التجربة السورية: عين المدينة، وعنب بلدي، وكلنا سوريون، وصدى الشام، وسوريتنا، وتمدن، وزيتون. كتب الصحفيون السوريون من حلب وإدلب واللاذقية والرقة، من مدن تعطّلت الحياة فيها، وصار الموت "عملًا شاقًا" إن أردنا الاستئناس بعنوان رواية خالد خليفة: "الموت عمل شاق". رواية أكثر حلكة من السواد، لا مجال فيها لأي بصيص أمل. وكيف لا؟ وهي سليلة السجادة السورية، خيوطها قضبان سجنها.
ولعلّ هذا ما ألهم الروائية السورية روزا ياسين حسن، كتابة مقال في عدد ليبراسيون السوري، عن أدب السجون السوري: حيث تتجاور وتخلط الشهادات مع التجارب واليوميات والروايات، فتبدو الحدود مخاتلة لا بين الأجناس فحسب، بل بين الخيال والواقع. إذ إن السوريين في كتابتهم هذه، يختلفون ويتفقون مع أدب السجون المغربي مثلًا: يتفقون في أنه قد يكون الكاتب، صاحب التجربة المعيشة، وقد يكون مدوّنها، أو مستلهمًا منها. ويختلفون عنه، بالتعبير الذكي الذي اجترحته روزا: "الكتابة عن السجن في سوريا أشبه بتجربة وطنية!". فمن شأن تعبير مماثل، توسيع المنظور حيال الثقافة السورية، ثقافة دؤوبة وخفرة بالضرورة. وكيف لا؟ ألم يلغِ مصطفى خليفة في "القوقعة" الحدود بين التجربة المعيشة والرواية؟ بين دقّة شهادة السجين، ومسارب السرد المتفلّت من السياسة، والجانح صوب الأدب الإنساني؟، ثقافة دؤوبة. خلافًا لياسين حاج صالح في "بالخلاص يا شباب"، حيث القوّة في الإصرار على تقديم شهادة المعتقل السياسي ببلاغة لا السجين المغْفل سبب سجنه. ثقافة دؤوبة. أسماء كثيرة، يُمكن عدّها. أسماء نقصت قمرًا؛ نقصت شاعرًا فراتيًا؛ بشير العاني، الذي قتلته وقتلت ابنه داعش.
لعل مديحًا يكون واجبًا لنبرة التشاؤم غير المحتملة، وتلك السوداوية الحالكة في رواية خالد خليفة، وتلك القسوة في المخاتلة ما بين لغة أدبية ولغة توثيقية، أليس هذا دأب السوريين؟ ثقافة دؤوبة.

المساهمون