الأستاذ

19 ابريل 2016
لوحة للفنان الفرنسي تولوز لوتريك (Getty)
+ الخط -
أمران اثنان ما كان ممكنًا من دونهما القيام عمليًا بالـ "النهضة العربية" أي تلك الفترة الممتدة من نهاية القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين؛ الطباعة والترجمة. من الصحيح أن المؤرخين يختلفون على بدايتها، إلا أن الأمرين الآنفين كانا أكثر من حاسمين فيها. في تلك "النهضة" الأدنى إلى "اليقظة اللغوية" من أي شيء آخر.

ليست "اليقظة اللغوية" أمرًا نافلًا، إذ إن اللغة من أهمّ مكونات الهويّة والوعي بالذات، أمور تؤدّي إلى الحشد والعمل، والأهم أنها تلتف حول نفسها، مشيرةً إلى هدف محدد. وكان الهدف وقتها أن نكون جزءًا من العالم المتمدن.

تناثرت في القرى والمدن والبلدات المشرقية، نواة بدايات المدرسة الحديثة، والجامعة الحديثة. ففي جبل لبنان لم يطل الأمر، فانتقلت من غزير ومن عبيّه إلى بيروت، ما سيعرف في ما بعد بـ جامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية.


ليس الانتقال توسيعًا للمكان وإرساءً لصرح تعليمي فحسب، بل كان نتيجة لجهود هائلة، ولغوية بالدرجة الأولى، أرادت الانتقال من "الكتاتيب" إلى التعليم الحديث، أو لو شئنا من "تحت السنديانة إلى العالم" استئناسًا بعنوان الكتاب المعروف لإدغار جلّاد.

في تينك القريتين - وفي بقاع أخرى من المشرق أيضًا - كان الشغل الشاغل لأهل ذاك العصر : الكتاب المدرسي والمطبعة. وبالعودة إلى سير حياة النهضويين، سنرى كيف أن تأليف "الكتاب المدرسي" و"طباعته" فضلًا عن "الترجمة"، كانت كلها تؤلف مفردات حيواتهم العامة والشخصية. وحيال هذه الأمور الثلاثة، ثمة، كما لا يخفى، لغة الضاد. لعلّها في ذاك الوقت وقفت بكامل وعورتها وتقعيرها أمام النهضويين، الذين على ما يبدو لم "يندبوا" و "ينتقدوا" قائلين : "لغة مقدّسة، دربنا خاسرة إذن". بل كانوا أكثر من إيجابيين، وهم ينبشون التراث القديم، يحققون المخطوطات، وينتقون من الألفاظ ما يناسب السائر بين الناس والأدنى إلى الرواج في عالمهم وقتها. هم الذين أسسوا التعليم، وأغنوا الأدب، وانفتحوا على ما يشعّ من "مدينة الأنوار" من ثقافة وفلسفة. بصورة خاصّة، تأخذ إنجازات الآباء اليسوعيين في هذا المقام، رتبة عالية. صحيح أن النهضة في مصر والعراق، كانت أيضًا مهمة، إلا أن لتلك "النكهة اللغوية النهضوية" أثر الخير المشعّ، وطيب الأثر، كلّ طيبه.


لو ملنا صوب الصحافة والمجلات في ذاك العصر، لوجدنا سيلان المعرفة والعمل الجاد بين الكتابة والتدريس. لتوضيح الصورة، يكفي ذكر اثنين : لويس شيخو، وأنستاس الكرملي، في طيّات اسميهما مجلتين : المشرق ولغة العرب. وفي طيّات اسميهما أيضًا، تأليف وترجمة وتدريس. وسيكون لائقًا مديح الرجلين، ومن ورائهما إنجازات كلّ النهضويين. ثم ماذا؟
بعد، يأتي دور "الأستاذ"، الذي نشأ "وارثًا" فلنقل، لتلك النهضة اللغوية، والأهم أنه كان أدنى إلى أهل اللاهوت في انضباطهم ودقّتهم وبذل كل الجهد من أجل الأمور الثلاثة إيّاها : الكتابة والترجمة والتدريس.

تعرف دمشق "الأستاذ"، ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد، الدكتور جمال شحيّد. وأبعد من دمشق، يعرفه طلابه الكثر، سوريين وغير سوريين. وهم طلاب فعلًا ومجازًا، إذ في حضرة ما خطّه قلمه ترجمةً وتأليفًا، يصير القارئ أيضًا طالبًا لضوء النبراس.


وفي ضوئه، نستطيع لمس كيف أن اللغة العربية "مطواع" كما وصفها مرّة. هو المولع برصف المترادفات، بغية إظهار ما في لغة الضاد من دقّة وغنى. وفي ضوئه أيضًا يظهر أثر التنشئتين العلمية والثقافية، ما يعلي من شأن أمر وحيد : العمل الدؤوب والجاد.

في كل هذا، ما تزال "الترجمة" لا الوسيلة المثلى فحسب لنقل المعارف والعلوم، بل الوسيلة المثلى لتجديد حياة لغة الضاد، شرط كان المترجم، مترجمًا حقًا، لا ناقلًا آليًا بين لغتين.
فالنقل الآلي بين لغتين، هو طريدة "غوغل" الأولية على ما يبدو، فالمخبر اللغوي لدى الشركة العملاقة، كما لدى غيرها، مثل الفيسبوك، يتمتع بميزانية هائلة، ويريد تمامًا تجاوز نقطة "الترجمة الآلية" وصولًا إلى معرفة القصد والمعنى المجازي للكلمات، ومن أجل ذاك فإن أبحاث الذكاء الاصطناعي أيضًا، تعمل بدأب وبصورة جادة للوصول إلى كيفية تفكير الإنسان، وطرق تعبيره اللغوية، بغية ابتكار "شيء حاسوبي" ما، قد يؤدّي دورًا هائلًا في تقوية الرقابة الكلية الوجود. لكنه على الأرجح، لن يؤدّي أي دور في تجديد حياة لغة ما. ونُقل عن إدوارد سنودن مرّة، تعليقًا على هذه الرقابة الكلية الوجود، أن الإنسان سيتجه إلى ابتكار لغة إشارية مجازية، للتفلت من تلك الرقابة. وبقطع النظر عن هذا القول الشهير، فلا ريب من أن أي ابتكار يحتاج "أستاذًا" دؤوبًا وجادًا، أدنى إلى النبراس، وفي ضوئه، كلنا طلاب.



دلالات
المساهمون