البحر الذي هو بيت إلى الأبد

البحر الذي هو بيت إلى الأبد

07 مارس 2018
(خورخي غالان، تصوير: خواكين بوغا)
+ الخط -

الإرث

انقضت خمس مئة سنة، وأكثر من ذلك بقليل
وأنت بعدُ منتصباً في الضباب. لا تستطيع أن تستوعبَ
صوت النهر الذي ينمو مثل طفل في الثانية عشرة
ويصير رجلاً يتمدَّدُ فوق سطح
الحجارة، ويقفُ
ويقفزُ في الهوَّة، ويسقطُ على قدميه ويستمرُّ ويستمرُّ
حتَّى يعثُرَ على البحر،
البحر الذي هو بيتٌ إلى الأبد.
أعلم أنك لا تفهم ثقل الأشجار الضخمة
ولا ترى لمعان الحجر البركاني
وهو يكسر عتمة الهواء،
ولا تسمع
صرخة الزمردة الصغيرة
ولا تحسُّ اهتزاز [ثور] البيسون عبر البراري اللامتناهية،
البيسون الذي لا يستطيع حافرهُ أبداً أن يُدَمِّرَ اللَّونَ الأحمرَ
للزُّهورِ الصَّغيرةِ المنسية.
أنتَ لا تفهمُ جمال ما لا يقبلُ التفسير. ضوضاء
ما هو أصيلٌ، حيث لا يوجد الإنسانُ.
لسانك ليس لساني، والكلمات
تتشابه لكن ليس المعاني.
قد رأيت أنك تنظرُ إليَّ خمس مئة مرة، ولكن انظر إليّ
مرة أخرى، وتأملني واقفاً في جلاءِ الظهيرة،
أمام العاصفة الثلجية، أنا لست زائراً للعالم
أنا العالم ذاته،
وأنا ريح الشمال
الوضيعة لمَّا احتكَّتْ بالرُّؤوس المنحنية
للمسكونين بالظلمة والموت.
أنا لست من سلالتك. والدُك
ليس والدي ولا والدتك ابنة أمي،
لكن ليس ثمة ما هو مختلف في نسيم المساء بالنسبة لنا،
نار المصباح ليست أجمل من نار الأتون الموقدة،
ليست حبّة البلوط أجمل من القوقعة البحرية
ولا البحيرة أجمل من يدٍ ملطخة بالطين.
عندما تُحكى حكاية الخلق،
لحظة البدء هي نفسها
في كلِّ اللغات التي نعرفها.
في أعماق المياه، ليس ثمة مركزٌ ممكنٌ
ولا منتهى في مهب الريح، حيث يعود كل شيء.
قد رأيت حماماتٍ من ضبابٍ تهيمُ على وجوهها بين مبانٍ عاليةٍ،
ورأيت آلافَ الرِّجال يقعون في قبرٍ واحدٍ
وزهوراً كانت تولدُ فوقه، ووعولاً
تأكل من تلك الزهور، والمطر، والمراكب في البعيد،
ثم بعدئذ السُّهوبَ المقفرة والحالكة، وشخصاً آخر
يمشي القهقرى إلى الأبد، قد رأيت
وصَمَتُّ، ولذلك قبّلي الآن شفتي بلا حُبٍّ
وافهمي ما طعم هذا الامتداد
حيث ليس ثمة اختلاف بين الهُوةِ والسَّماء.

■ ■ ■


مُتخَفٍّ

لا أستطيع ان أراك. أنحني وألمس الأرض
لكني أعجز عن الإحساس بالانحناءة.
ولم أعد الآن قادراً على أن أراك أو ألمسك أو أسمعك
ولا أن أتلفظ بأسماء أبنائك.

أتخيل أنك في النافذة، وتبحثين في الأشجار
عما لا يمكن العثور عليه أيضاً،
كنت تريدين أن تريني متجلياً في الظلال المندهشة،
تخلطين بين جسدي، جسد الفتى،
مع الأشكال التي ترينها في الضباب.

وتتحدثين إلى المطر كما كنت تفعلين من قبل معي.
كنت ترسمين إشارة الصليب مئة مرة. تتوسلين من أجل العودة
حتى يتحوّل الفجر ذاته إلى ابتهال لك.
أعلم أنك لا تستوعبين ما يحدث.
تنظرين إلى البحر ولكنك لا ترين تسونامي.
لا تحدسين الموجة بحجم موت إنسان.

لا تسمعين أجراس العالم تُقرَعُ لأجلك.

لا تريدين أن تفهمي أن الضوء اللامسموع إعصار
يصطدم بجدار واحد وبنافذة واحدة،
هنالك حيث يجد البُعْدُ حدوده الحقيقية.

لا أنت ولا أنا نستطيع أن ننظر إلى الوراء لنعثر
على كل ما لن تكون له من جديدٍ بدايةٌ.
أياد هائلة ممتلئة لا تعرف
ما يمكن أن تفعله بما قد أمسكته.

لغة تبحث عن طعم ما في الضوء البدين للظهيرة.
أصوات تحاول أن تهدم جدران الماء
إلى أن يتوقفَ كل شيء. حتى يتراجع كل شيء
مثل وجه شيخٍ يعود إلى صباه
عبر فنائه الذاتي.

أنا أفهم أنني لا يمكن أن أعثر عليك حيثما أعلم أنك لست موجوداً.
وأعلم أنني لست موجوداً لا في المركز ولا في الجنوب
وإنما في الغرب الرَّهيبِ من شوارعَ مُضيئةٍ
حيث لا يوجدُ لا البحر ولا الياسمين
لأنهما ليسا ما أتذكره
ولا أستطيع أن أخلقها من جديد.

هذا الجلاء البهيُّ ليس ضوئي. وهذه الأحجارُ
لا يمكنها أن تكون أحجاري البهية المنحوتة. وهذه الجلبة
النقية تفتقد إلى الطلقات والألعاب والنارية.
هذا كل شيء. أردت فقط أن أقول لك إنني لا أستطيع أن أراك ولا أن أسمعك،
والآن سأصمتُ لكي نبقى وحيدين.


بطاقة: Jorge Galán شاعر وروائي من مواليد السلفادور عام 1973. من أعماله الشعرية: "اليوم اللامتناهي" (2004)، و"مساء من الثلاثاء" (2004)، و"حكاية موجزة عن الفجر" (2006)، و"الغرفة" (2007)، و"البركة الغزيرة" (2010)، و"الحلقة" (2014)، و"تحت ليل نوفمبر اللاينتهي" (2016). كما نشر عدة أعمال سردية منها: "الجائزة اللامتوقعة" (2005)، و"حلم ماريانا" (2008)، و"الغرفة في عمق البيت" (2013)، و"حكاية مزهرية" (2013)، و"نوفمبر" (الصورة، 2015) كانت آخر رواياته التي تلقى بسببها تهديدات بالقتل اضطرته للخروج إلى المنفى.

* ترجمة عن الإسبانية: خالد الريسوني

المساهمون