رحيل الليبريخانو: عندما يغنّي يبتَلّ الماء

رحيل الليبريخانو: عندما يغنّي يبتَلّ الماء

20 يوليو 2016
من مراسم وداع الليبريخانو، تصوير: فيرناندو روسو
+ الخط -

رحَل مغني الفلامنكو الإشبيلي خوان بينيا (1941-2016) المعروف بـ الليبريخانو، الأسبوع الماضي، ووري الثرى في قريته الإشبيلية ليبريخا، وسط الأرياف الأندلسية الممتدة جذورها عميقاً في الأصالة والغناء، يقول: "في عائلتي كنا دوماً واعين بأن لدينا التزاماً مع جدِّية الغناء، وأيضاً، التزاماً اجتماعياً يجب أن ينعكس من خلال غنائنا، فقد حرصنا على أن نكون أوفياء لأنفسنا".

لقد كان الليبريخانو من أصول غجرية قويّة الصلة بالغناء الفلامنكي، وقد تقاطعت طريقه منذ بدايته في أواسط ستينيات القرن الماضي مع أبرز رموز هذا الفن تأليفاً وعزفاً وغناء، فهو بالإضافة للأداء الغنائي، مؤلف للعديد من قصائد وكلمات أغنياته، ومؤلف لألحانها، ناهيك عن كونه عازفاً محترفاً على الغيتار منذ بداية مسيرته الفنية، لقد التقى على مسرح الفلامنكو مع العديد من مجايليه، وخصوصاً كَمَارُّون دِي لا إيسْلا وباكو دي لوسيا، من خلال حضورهم جميعاً في "مهرجان الفلامنكو الغجري".

عُرِفَ عن الليبريخانو احترامُه العميقُ لتقاليد فن الفلامنكو ومحاولته الرائدة في تجديد الصلة بالموسيقى العربية الأندلسية في شمال المغرب، على وجه الخصوص، من خلال أعمال سجّلت حضوراً بارزاً لأساتذة الموسيقى الأندلسية في مدينتي طنجة وتطوان المغربيتين، حيث التقى بعلمين بارزين لهذه الموسيقى، هما محمد العربي التمسماني وعبد الصادق شقارة، ثمَّ في ما بعد مع عازف العود المغربي أمين الشعشوع، كل ذلك الجهد أنتج مشروع عمل فني كان عنوانه في البداية "جُدّد اللقاء" قبل أن يتحول العنوان إلى "كازابلانكا".

لقد آمن الليبريخانو بتقاطع مصائر العرب الأندلسيين والشعب الغجري وأخُوَّتِهما، كما آمن بضرورة إعادة اكتشاف الجذور العربية عميقة الامتداد لفن الغناء الفلامنكي، مثلما يكشف عن ذلك تغنيه بالقصيدة الشهيرة للشاعر الإشبيلي مانويل ماشادو التي تقول:

"أشبه أناساً قدموا إلى بلادي
أنا من الأصلِ المُورِيِّ، أصدقاءِ الشَّمس،
غنموا كل شيء، وأضاعوا كل شيء،
أمتلكُ حُضْنَ الطِّيبِ العَرَبِيِّ الإسبانيِّ،

إرادتي ماتتْ في ليْلةٍ مقمِرَةٍ
كانَ جِدَّ فاتنٍ فيها ألا تُفكِّرَ وألا تُحِبَّ
المِثاليُّ بالنِّسْبةِ لي أنْ أتمَدَّدَ بلا أيِّ أملٍ
وبينَ الفينة والأخرى قبلةٌ واسمُ امرأةٍ".

إلى آخرِ قصيدةِ "شجَيْرَاتِ دُفلى"، وعلى العموم فقد دافع الليبريخانو عن أصله الأندلسي، كما دافع عن الغجر وعن الغجري، وربط بين الفلامنكو وبين الغناء الأندلسي في روائع غنائية خالدة.

ولقد كان الليبريخانو طوال عمره - مثله في ذلك مثل باكو دي لوسيا - قريباً جداً في انتماءاته من اليسار طوال عهد الدكتاتور فرانكو، وكان هذا الأخير يستدعى دوماً إلى الحفلات الفنية الكبرى التي كان يعدّها النظام ليتقرب من عالم الفن والفنّانين في "قصر الباردو" في مدريد، لكن الليبريخانو كان دوماً يتذرّع بكونه مريضاً حتى يتسنّى له أن يتغيّب عن حضور مثل هذه اللقاءات التي كان ينظمها النظام الفاشي.

وفي إحدى المرات وأمام ملاحظة فرانكو لتكرار غيابه، قال لهم: يبدو أن هذا الشاب عليل جداً، فهو كلما دعوناه كان مريضاً، وهي الحكاية التي كان يتم تناقلها عن الليبريخانو وطريقته في التهرّب من ممالأة النظام، ولذلك كان يفاخر بأن النظام لم يستطع تدجينه، وأن معارضته للدكتاتورية لا غبار عليها.

وبعد عودة الديمقراطية، استدعي الليبريخانو إلى حفلة ساهرة في "البيت الإشبيلي" لـ لولا غونثاليث، أخت فليبي غونثاليث رئيس وزراء أول حكومة اشتراكية في إسبانيا، فغنّى الليبريخانو إحدى الأغاني المهداة إلى الشاعر الهندي رابيدرانات طاغور، فشدّ ذلك انتباه غابرييل غارسيا ماركيز إلى غنائه الغجري وصوته المتميز، فكان ذلك إيذاناً ببداية علاقة جميلة بينه وبين الكاتب الكولومبي الذي اقترب منه وسلّمه ورقة كتب فيها امتداحاً لحنجرته الذهبية. ومن بين ما قاله عنه غابو: "عندما يغنِّي الليبريخانو يَبْتَلُّ المَاءُ".

وقد ردَّ الليبريخانو التحية بأفضل منها، ففي أسطوانته المعنونة بـ: "أرض" التي كانت عملاً أفرده للأشعار الفلامنكية للشاعر الإسباني الشريشي خوسيه مانويل كاباييرو بونالد، أحد الفائزين بجائزة ثربانتيس (تعتبر شريش مهد الفلامنكو حسب الأندلسيين)، نجد أغنية مهداة لماركيز عنوانها: "الكولونيل لا يجد من يكاتبه"، وهي مستلهمة من روح تلك الرواية المميزة للكاتب الكولومبي والتي تحمل العنوان نفسه.

لقد كان الليبريخانو يحبُّ العرب والغناء العربي، ويحب الأندلس وأصوله الغجرية مثله مثل لوركا، وكان محباً لجذوره الضاربة في عراقة الأرض الأندلسية.

_________

عذابات الغجري
يكثّف الليبريخانو في "اضطهاد" (1976)، أحد أبرز ألبوماته، آلام الغجر عبر قرون من الإقصاء والتقتيل في أوروبا، حيث تعرضوا لأكبر عمليات التطهير العرقي والترحيل القسري ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر، وفق قوانين أصدرتها غالبية بلدان القارة العجوز. ومن رحم هذه المعاناة ولدت موسيقى الفلامنكو بكلمات تنبع من عذابات الغجري الذي "حين يشعر بتعبه يموت"، كما يقول في إحدى أغاني الألبوم.



المساهمون