الأبنودي.. عسل اللسان وحيلته

الأبنودي.. عسل اللسان وحيلته

11 مايو 2015
+ الخط -

كانت "ضرورات" عبد الرحمن الأبنودي (1939 - 2015) شبه منتهية منذ سنوات. لكنّ الشاعر حينما يمتدّ ظلّه ويمتلك مساحة يصعب عليه حتى هو تخيُّلها؛ يتحول إلى ما يشبه "شيخ العرب".

ففي ثورة يناير يكون هو المنادي، ويشتم دولة العواجيز، وهو منها، وربيبها، وحاصل على "جائزة مبارك" من مبارك نفسه قبلها بشهور. لكن هذا هو الشعر، يجبرك على أن تكون أنت مع ضدك في آن، حتى وإن لم تدخل ميدان الثورة، ولكن ترسل للميدان الوصايا، فالأبنودي لا يحب أبداً أن يكون مهملاً أو في الهامش كطبيعة مشايخ العرب، والسياسة تعرف أن ما تقدمه لشيخ العرب في المساء باليمين سيصل في الصباح إلى يدها الشمال.

والأبنودي يدرك هذه اللعبة من عقود، بل يتقنها ، فهو مغنواتي ليس بسيطاً (وقعر مجلس) لا يستهان به، والرجل معه حيله وجرابه وخرجه، معه الربابه والشعر يحبه، ويعرف حيلة الكلام، بل هو في الكلام، لاعب عصا ماهر، ويعرف جيداً كيف يجيب "الباب" من تحت باط الخصم بالعصا، والسياسة تحب هذا النوع.

عشق الأبنودي ظله أكثر من أي شئ آخر. ظله يمتد على طول الوطن من مراكش غرباً حتي دبي شرقاً لسنوات طوال من الراديو الي التلفزيون الي السينما الي السيرة الهلالية الي الغناء والطرب . الرجل مرغوب وحكاء ولا يكره ، بل هو طبيب شاطر يعرف كيف يقدّم للضيف عسل الكلام.


ليس مثقفا وجودياً ولا مأزوماً، ولا عنيفاً ولا مطحوناً، بل صاحب مائدة يعرف أبواب الكلام وقفلاته ويجيد فتح أبواب المودة، وهذا ساعده كثيراً وورّطه أيضاً، ولكن الرجل يعشق اللعبة، إلى درجة أنه في مرحلته المتأخرة لم يفرّق ما بين الدبابة والربابة، فالربابة معه، وبحيلة شيخ العرب يؤمن نفسة من قسوة الدبابة. فالرجل يحب الأشجار والفاكهة والورد ويحب بناته ويعشق مهجته، وظله يزين له ما لا نراه ولا نتخيله.

رحم الله الأبنودي شاعراً وإنساناً. استطاع بعسل اللسان وحيلته أن يلاعب الحاكم في حديقة بيته، واستطاع أن يغني رغم تحاريق عمره وبلاده. تحول من شاعر إلى شيخ عرب، ودخل السياسة من أبواب الشعر، وخرج من الباب لملاقاة ربه وقد أدمته أشواكها.

دفع الرجل فاتورة ألمه كاملاً، ودخل حديقة السلطة من خلال عسل لسانه، فأصاب وأخطأ، وفي النهاية لا حيلة للمرء في مهجته، وخصوصاً حينما يكون المرء محبوباً من الناس. ولا ننكر على الأبنودي محبة الناس له ولأشعاره وسامره ومسامراته وربابته. وفي النهاية ، يبقي ما كتب بعدما انفضاض السامر، وأخذ الباكية أجر بكائها، وما أكثر الباكيات بأجر في مثل هذا الأيام.


* روائي من مصر

المساهمون