"غرفة": أصغر ممّا تستطيع المخيلة

"غرفة": أصغر ممّا تستطيع المخيلة

02 ابريل 2016
(لقطة من الفيلم)
+ الخط -

نادراً ما يكون الفيلم المأخوذ عن عمل روائي قادراً على نقل روح الرواية. لكن عمل المخرج الإيرلندي ليني أبراهامسون "غرفة" (2015) ينضمّ إلى مجموعة الاستثناءات تلك؛ إذ استطاع أن يقدّم جوهر الشخصيات وصراعاتها بشكل شبه متطابق لوجودهما في الرواية. لعلّ سبب هذا النجاح هو أن السيناريو كتبته الروائية ذاتها، الإيرلندية الكندية إيما دونوهيو، التي سردت روايتها، الصادرة سنة 2010، على لسان بطلها جاك، صاحب الأعوام الخمسة.

أكثر ما يُسجَّل لأبراهامسون (1966) في هذا الفيلم، هو تمكّنه، وبشكل لافت، من إدارة ممثّليه، وهو ما رأيناه خلال عمله مع الممثّل مايكل فاسبندر في فيلم "فرانك" (2012). أمّا هنا، فالتحدي أصعب بكثير، لأننا أمام بطلين يعيشان داخل حيز لا تزيد مساحته عن بضعة أمتار مربعة، ومع ذلك حوّلا الغرفة، التي تشكّل المكان الوحيد لأكثر من نصف الفيلم، بحركاتهما المدروسة وبتعاملهما المكثّف مع مفرداتها، إلى عالم كبير جداً.

كان أداء الممثّلة بري لارسون لافتاً، واستحقّت عنه جوائز عديدة أهمّها أوسكار أفضل ممثلة هذا العام، وهو إنجاز مهمّ لممثّلة لم تتجاوز السابعة والعشرين من عمرها. كذلك كان الطفل يعقوب ترمبلاي مدهشاً في أدائه، وفي حضوره أمام الكاميرا التي بدا وكأنه يعرفها منذ سنوات طويلة.

ينقسم الفيلم إلى قسمين رئيسين: داخل الغرفة وخارجها، لكن الغرفة تبقى المكان الأبرز والمؤثّر في حياة البطلين. يعيش جاك مع والدته (بري لارسون) داخل غرفة شبه مظلمة، لا شيء يوحي بحياتهما اليومية بما هو غريب في البداية. يبدأ العمل مع استيقاظ جاك في يوم ميلاده الخامس، ويبدأ مع والدته بتحضير الاحتفال داخل هذه الغرفة.

رويداً رويداً نكتشف أن خروجهما من هذا المكان صعب جدّاً، خصوصاً مع الزيارات القليلة لرجل غريب (نيك)، والتي يعنّف فيها الأم أمام عيني طفلها. بعدها تحاول الأم، التي مر على وجودها في هذا المكان سبع سنوات متواصلة، أن تدبّر مع ابنها خطة لهروبهما من المكان، المحاولة الأولى عندما يتظاهر الصغير بالمرض. أما المحاولة الثانية، عندما تعلّم الابن أن يتظاهر بأنه ميت، يأخذ الرجل "جثّة" الطفل ويرميها خارجاً، فيهرب ويخبر الشرطة بحال والدته، والتي ستنجح في إنقاذها.

لا تنتهي مصاعب الاثنين عند خروجهما؛ إذ يواجهان مصاعب كبيرة في حياتهما خارجاً، بعد أن اعتادا خلال حياة طويلة على الانفصال عن العالم المحيط: اختُطفت الأم من قبل نيك منذ كانت في السابعة عشرة من عمرها، أمّا الطفل، فلم يتعامل مع بشري خلال سنوات حياته الخمس غير والدته.

في النصف الأول من العمل، يتمكّن الطفل ووالدته من خلق عالمهما الخاص الغني بتفاصيله الدقيقة، وفي الوقت نفسه إضفاء روح إلى الأشياء. بالنسبة إلى الطفل، فإن كل ما يراه على شاشة التلفاز هو خيالي وليس حقيقياً، ولا وجود لعالم خارج جدران الغرفة، أي أن كل ما هو خارج إدراكه غير موجود إطلاقاً. الخارج بالنسبة إليه موجود ضمن اللغة والخيال، وقدرتهما، من خلال التفاعل فيما بينهما على إنتاج عالم مواز للعالم الذي يعيش فيه.

في لحظة من الفيلم، تقرّر الأم إخبار ابنها بأنها كانت تكذب عليه طيلة الوقت، وأن العالم ليس كما يتصوّره هو، وأن كل ما يراه على التلفاز حقيقي وليس متخيّلاً وواقعهما استثنائي جداً. مفارقة تظهر في هذا الجدل عند معاناة الأم بإقناع ولدها نظرياً بذلك، وعملياً عند خروجه وتعامله مع أول كائن غير والدته. تختلط الصور في ذهن الطفل، فيبدأ بالسؤال عن حقيقة وجود الرسوم المتحرّكة تارةً، وتارةً يؤنسن الأشياء المحيطة به.

الفشل في التكيّف مع الحياة الجديدة سيدفع الأم إلى محاولة الانتحار. بصعوبة، يتأقلمان مع العالم الجديد. تمرّ الأيام ويقرّران زيارة غرفتهما بعد أيام طويلة من خروجهما منها. الأمر يشبه رغبة السجين في زيارة سجنه، وبمحض إرادته، ليرى كيف تشكّل وعيه في المكان المغلق، مع شرط أساسي هو أن يكون الباب مفتوحاً كما حدث في المشهد الأخير من الفيلم، حين قال الطفل "هذا المكان يختلف كثيراً عما كان عليه عندما كنا نحيا فيه".

ربما كان المشهد الأخير سيكون ساحراً لو كان صامتاً، واكتفى المخرج بتعامل الطفل مع مفردات المكان وإبداء التحية لها (عادة قديمة يمارسها منذ أن كان سجيناً مع والدته)، أمر أفسدته التعليقات الإنشائية والمباشرة مثل: "هذه ليست الغرفة نفسها، لأن الباب مفتوح".

هكذا، يلقي الطفل مع والدته نظرة على العالم الخاص والغني الذي استطاعا تشكيله خلال فترة سجنهما. يُبرز العالم السابق، في جزء كبير منه، قدرة الفرد على تحدّي أقسى الشروط وأكثرها عنفاً، كما يبرز في الوقت ذاته إصراره على ترك بصمته في المكان الذي هو دائماً بحجم إدراكنا وأصغر بكثير مما تستطيع المخيّلة أن ترسمه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وصف الحواس
ليس مستغرباً أن يقدّم ليني أبراهامسون فيلماً يصف بدقة أثر الحبس والعنف على الحواس الجسدية والنفسية، لا سيما إذا عرفنا أن المخرج الإيرلندي يحمل دكتوراه في الفلسفة من جامعة ستاندفورد، والتي حصل عليها قبل أن يبدأ العمل في فيلمه الأول "آدم وبول" عام 2004. يحرص صاحب "ما فعله ريتشارد" على مسافة من التراجيديا بتقديمها ككوميديا سوداء، أو غرائبية شديدة تعيشها شخصيات متطرّفة في العنف والفزع والكآب

المساهمون