لماذا "يكره" الكروات والصرب والبشناق إيفو آندريتش؟

لماذا "يكره" الكروات والصرب والبشناق إيفو آندريتش؟

18 مايو 2020
إيفو آندريتش عام 1968 (Getty)
+ الخط -

قبل أيام أعلنت الجريدة الصربية الأكثر انتشاراً "بليتس" عن نشرها مقاطع من الكتاب الجديد عن إيفو آندريتش (1892-1975) للكاتب الألماني المتخصّص في البلقان مايكل مارتنس "حرائق في عالم: إيفو آندرياش - حياة أوروبية" الذي صدر في 2019، وهي التي نُشرت على ثلاث حلقات (10-12 أيار/ مايو) وسط عناوين لم يعتد عليها القرّاء الصرب بالنسبة لكاتبهم المفضّل الذين يعتبرونه "أول كاتب صربي يفوز بجائزة نوبل للأدب". فضمن العناوين الجديدة التي لم يألفها الصرب كان: "هل سوّد آندريتش صورة البوسنة؟" و"متى أعلن آندريتش عن نفسه ككاتب صربي؟"، أي بعد أن كان يعتبر نفسه كاتباً كرواتياً، وغير ذلك.

يأتي هذا في الوقت الذي تتنازع فيه كرواتيا وصربيا هذه الأيام على الشخصيات المعروفة في العالم، مثل المخترع نيكولا تيسلا وغيره. ففي اليوم التي نشرت فيه الحلقة الأولى (10 أيار/ مايو) احتجّت صربيا رسمياً لدى المفوضية الأوروبية لورود اسم نيكولا تيسلا في أحد النصوص باعتباره "كرواتياً"، وهو الذي تعتبره صربيا "مفخرة الصرب في القرن العشرين"، ولكنها لم تحتج قبل أيام من ذلك لدى كوسوفو لنشر الصحافة (جريدة "بوتا سوت" في 28 نيسان/ إبريل الفائت) مقالة مع صورة لتيسلا بالزي القومي الألباني مع رأي الكاتب الذي يقول إن جدّ الأُسرة من منطقة السنجق التي تقع بين صربيا وكوسوفو والبوسنة، التي تعيش فيها إثنيات عدّة. ولو أخذنا البوسنة، التي ولد ونشأ فيها آندريتش، لوجدنا في العائلة الواحدة أحياناً من يصرّح بانتمائه حيناً كصربي وحيناً ككرواتي، كما كان الأمر مع إيفو آندريتش نفسه.

كانت هذه القضية (هل آندريتش بوسنوي، كرواتي، أم صربي؟) قد أصبحت حسّاسة قبيل وفاة صاحب "جسر على نهر درينا" مع التوتّرات القومية بين جمهوريات كرواتيا وصربيا والبوسنة التي انفجرت بعد وفاة تيتو عام 1981 وأدت إلى انهيار يوغسلافيا في 1991.

ففي ذلك الحين تم الاتفاق على طبعة جديدة من "موسوعة يوغسلافيا"، التي كان مقرّها زغرب، ولمّا كان أندريتش وغيره في الجزء الأول فقد اندلع الخلاف حول بعض الشخصيات الملتبسة مثل آندريتش وغيره. ومع احتداد الخلاف اعتمدت معايير عدة لحسم "الانتماء القومي" للكاتب، منها وأهمّها مشاعره وتصريحه عن نفسه.

في هذا السياق كان فوز آندريتش بجائزة نوبل للأدب عام 1961 فوزاً ليوغسلافيا التيتوية التي كانت قد ابتعدت عن المعسكر السوفييتي وأصبحت جاذبة لأوروبا باعتبارها تمثّل تجربة جديدة يتداخل فيها الشرق والغرب، وهو ما يمثل أيضاً أدب آندريتش. في ذلك الحين، حين ذهب آندريتش إلى استوكهولم لتسلّم الجائزة في العاشر من كانون الأول/ ديسمبر 1961، قال إنه يمثّل أدب يوغسلافيا ولم يقل إنه يمثّل الأدب الصربي أو الكرواتي أو البوسنوي. ولكن بعد صعود الموجة القومية الجارفة في يوغسلافيا منذ سبعينيات القرن الماضي وبعد وفاة آندريتش عام 1975 أصبحت تتنازعه صربيا وكرواتيا على الرغم من ارتباط اسمه بالبوسنة أيضاً، وهو ما انعكس على الطبعات الجديدة من كتبه وعلى المقالات التي تتناوله في الموسوعات العالمية حيث يرد مرّة أنه كرواتي ومرّة أنه صربي ومرة أنه بوسنوي.

وبالعودة إلى "الحب" أو "الكره" الصربي - الكرواتي - البوسنوي الذي ورد في لقاء للمؤلف الألماني مايكل مارتنس مع مثقفين صرب وكروات وبشناق في المركز الثقافي بسراييفو في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 حول كتابه الجديد الذي صدر بالألمانية في خريف 2019 بعنوان "حرائق في العالم: إيفو آندريتش – حياة أوروبية"، في هذا اللقاء الذي أداره الكاتب الصربي دراغوسلاف ديدوفيتش، تحدّث الكاتب الألماني بتمكّن في اللغة الصربية - الكرواتية - البوسنوية كما سمّاها، وامتُدح على جدّة ما جاء به وموضوعيته. ولم يكن هذا مستغرباً حين اعترف المؤلف أنه أمضى 7 سنوات في تأليف الكتاب، زار خلالها كل الأماكن التي عاش ودرس واشتغل فيها آندريتش على امتداد القارة الأوروبية من إسبانيا إلى ألمانيا ومروراً بإيطاليا والنمسا والبوسنة وصربيا وغيرها، وبحث عنه في مراكز الوثائق في هذه الدول التي سمحت له بالوصول إلى معلومات جديدة تكشف لأول مرة.

من هذه المعلومات عضوية آندريتش في المنظمة القومية - الإرهابية "البوسنة الفتاة" التي كانت وراء اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرديناند بسراييفو في 28 حزيران/ يونيو 1914 الذي أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. في ذلك الحين كان آندريتش طالباً جامعياً وشاعراً قومياً متحمساً للأفكار القومية حول وحدة سلاف الجنوب - اليوغسلاف في دولة واحدة (يوغسلافيا) التي حملتها منظمة "البوسنة الفتاة" (بغضّ النظر عمّن كان يقف وراءها). في ذلك الحين اندلع الخلاف بعد تمكّن غفريلو برنسيب من قتل ولي العهد حول اعتباره بطلاً قومياً أو إرهابياً، وهو الخلاف الذي استمرّ وتجدّد مع الذكرى المئوية لموت برنسيب في السجن، نيسان/ إبريل 1918. فحتى الآن بقي برنسيب "بطلاً" في جمهورية صربيا على الأقل، بينما لم يعد كذلك في البوسنة ولا في كرواتيا.

حول هذا الموضوع ("البوسنة الفتاة" ومشاركة آندريتش فيها) لدينا حوالي 3 صفحات في الكتاب، ولذلك كان المدخل إلى الحديث والحوار مع المؤلف الألماني. فحسب مارتنس كان آندريتش يمثل هذا الأدب الجديد الذي يدعو إلى "قضية" عادلة برأيه بينما تعتبر هذه "إرهابية" لدى الطرف الآخر. وتجدر الإشارة إلى أن آندريتش اعتقل في 1914 وكتب في السجن مجموعتين شعريتين نشرهما بعد خروجه، في 1918 و1920، وكرّستاه شخصيه صاعدة بقوة في الدولة الجديدة التي نشط لأجلها: مملكة يوغسلافيا. من هنا جاء تعلّق آندريتش بيوغسلافيا على الرغم من فشلها وانهيارها في 6 نيسان/ إبريل 1941 حين كان آندريتش سفيراً لها في ألمانيا النازية التي قامت قواتها بقصف واجتياح بلاده، وعاد آندريتش للعيش في بلغراد (1941-1944) في صربيا الموالية لألمانيا النازية. ومن هنا قال كلمته الشهيرة "يوغسلافيا فاشلة أحسن من دون يوغسلافيا"، وهي التي لم يوافقه عليها مارتنس الذي أخذ مثالاً على ذلك بلاده ألمانيا بعد اتحادها: إذا غدت ألمانيا دولة فاشلة فلا يوجد مبرر لوجودها.

في هذه اللقاء دار الحديث أيضاً عن الصورة القاتمة للبوسنة والمسلمين في مؤلفات آندريتش ("وقائع مدينة ترافنيك" و"جسر على نهر درينا" و"الفناء الملعون" الخ) وفي رسالته للدكتوراه التي أنجزها في 1924 بعنوان "تطوّر الحياة الروحية في البوسنة تحت تأثير الحكم التركي"، التي أصبح بسببها شخصية مكروهة لدى البشناق في البوسنة بعد الاستقلال عن يوغسلافيا في 1992. في هذا اللقاء دافع مارتنس عن آندريتش وكشف أنه في لقاء نادر له مع تيتو (الذي لم يكن يميل إليه) في 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1962 ورد الحديث عن الحكم العثماني للبوسنة فاعترف آندريتش أن ما بقي في الأذهان هو انحطاطها في العقود الأخيرة، مغيّراً نظرته إلى الدولة العثمانية، بينما لم تكن كذلك في البداية، أي أنه كان يقوم بنقد ذاتي شجاع لموقفه السابق بحسب مارتنس. ومن ذلك أنه لم يسمح بنشر أطروحته للدكتوراه (التي كانت تمثّل نظرته المتحيِّزة) خلال حياته، ولم تنشر إلا بعد وفاته بسنوات (1991) حين أصبحت مرغوبة ضمن التصعيد القومي - الديني بين الصرب والكروات والبشناق آنذاك.

في هذا اللقاء مع المثقفين البشناق والكروات والصرب قال مارتنس إنه كشف عن أن آندريتش كان في شبابه يوقع كتاباته كـ "كاتب كرواتي"، ولكنه بعد أن صعد بسرعة في هرم السلطة/ الخارجية اليوغسلافية (أصبح نائب وزير في 1938) لم يعد يوافق منذ 1934 على أن تدخل أعماله ضمن مختارات "الأدب الكرواتي" وأصبح يشير إلى نفسه كـ"كاتب صربي".

في نهاية هذا اللقاء الشيّق فاجأ مارتنس جمهوره "اليوغسلافي" بنكتة سمعها من كاتب معروف في بلغاريا: هل تعرفون لماذا يكره الكروات والصرب والبشناق إيفو آندريتش؟ الجواب: الكروات يكرهون آندريتش لأنه ولد كرواتياً ولكنه مات كاتباً صربياً، والصرب يكرهون آندريتش لأنه كان كاتباً صربياً ولكنه ولد كرواتياً، والبشناق يكرهون آندريتش لأنه ولد!


* كاتب وأكاديمي كوسوفي - سوري

المساهمون