آلبرخت دورِر.. العصر الذهبي وظلاله

آلبرخت دورِر.. العصر الذهبي وظلاله

09 مايو 2018
(من المعرض، تصوير: روبيرتو كابيلو)
+ الخط -

الجدال الديني والروحي ركن أساسي في أعمال الفنان الألماني آلبرخت دورِر (1471-1528)، كذلك الثيمات الأسطورية والحواجز المزخرفة خلف مذبح الكنيسة، أو رؤيته للطبيعة والفن بين الكلاسيكية وردود الفعل المناهضة للكلاسيكية، وشخصيته كرجل وطموحاته كفنان، كل هذا يتمّ سرده في معرض يقام في "القصر الملكي" في ميلانو الإيطالية ويستمر إلى غاية أواخر الشهر المقبل (يونيو 2018).

هذا المعرض الذي ترعاه بلدية ميلانو، ويشرف عليه أستاذ تاريخ الفن المعاصر في جامعة فيرونا، برنارد أيكيما، يحاول إلقاء الضوء على المسار الفني لـ دورِرْ الذي كان غزير الإنتاج الفنّي بالتأكيد، ولكنه تميز أيضاً بلحظات من التألق الكبير في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في جنوب ألمانيا. وفي الوقت نفسه، يكشف المعرض السمات الجوهرية لأعماله في مختلف المجالات، من خلال 130 عملاً من روائع عصر النهضة الألمانية والتي تمتد جغرافياً إلى الجنوب (بالأخص في شمال إيطاليا) وفي ما يسمى بالبلاد المنخفضة (هولندا).

تتوزّع الأعمال ما بين التصوير الزيتي والرسومات التخطيطية والمائية والرواشم (الطباعة بالرسوم البارزة) التي تظهر شخصية الفنان المبتكرة من وجهة نظر تقنية ودلالية، كما في لوحات "المسيح بين الكهنة" و"سجود المجوس" و"بورتريه كاهن".

منظمو المعرض اختاروا بورتريه "امرأة شابة من البندقية" كصورة ونموذج لما أنجزه دورِرْ في إيطاليا، وه خيار يحاول إبراز العلاقات الوثيقة بين الفن الإيطالي وفنون الشمال. علماً أن المعرض لا يضم لوحات رمز عصر النهضة الألمانية فحسب، إنما أعمال معاصريه أيضاً من فنانين ألمان وإيطاليين، ومنهم ليوناردو دافنتشي (لوحة "سان جيرولامو" المستعارة من متاحف الفاتيكان)، وتيتسيانو، وجوفانّي بيلليني (لوحة تحمل عنوان "باليوتّو برباريغو" وتتصدر الصالة الأولى)، وجورجوني (لوحة "بورتريه امرأة عجوز")، ولورنتسو لوتّو، ولوكاس كراناخ وهانز بالدونغ غرين.

يتفرّع مسار المعرض إلى ستة أقسام موزّعة حسب المواضيع التي تطرّق إليها الفنان في أعماله والعلاقة التي كانت تربطه بالبندقية وإيطاليا بشكل عام. وبالفعل، بدءاً من عام 1490 قام دورِرْ بمراجعة أسلوبه طبقاً للنظريات الفنية المختلفة التي تلقى أصولها في إيطاليا، ثم شرع بابتكار أفكار مختلفة حول محاكاة الطبيعة والفن على المستوى النظري، مع أطروحات حول التناسب والمنظور وحول الممارسة الفنية أيضاً. وقد قام في أواخر حياته بنشر بعض المؤلفات حول هذه المواضيع، ممّا وضعه في مصاف الطليعة الفنية والفكرية المطلقة لزمانه، وهو ما يتحدث عنه القسم الثاني من المعرض والذي حمل عنوان "الهندسة والقياس والهندسة المعمارية".

وقد تمّ مواكبة هذه الأفكار في فن دورِرْ ومعاصريه، من خلال تسجيل دقيق للطبيعة، كما في القسم الثالث الذي يحمل عنوان "اكتشاف الطبيعة، اكتشاف العالم" حيث أثبتت مساهمة الفنانين الألمان، ودورِرْ في مقدمتهم، أنها كانت أساسية وعلى قدم المساواة مع أشهر فناني إيطاليا.

كان دورِرْ قد زار إيطاليا مرتين، المرة الأولى في عام 1494 على إثر انتشار واحد من تلك الأوبئة الشائعة آنذاك، والتي كان يطلق عليها بشكل عام "الطاعون"، وكان يُعتقد أن أفضل حلّ لتلافي العدوى هو الابتعاد عن المنطقة الموبوءة. دورِرْ استغل هذه الفرصة للذهاب والاطلاع عن قرب على "الفن الجديد" في أرض المنشأ، حيث غادر إلى البندقية برفقة تاجر من مدينته نورنبرغ.

بينما قام الفنان الألماني بالرحلة الثانية عام 1505، وكانت أيضاً بسبب وباء آخر قد انتشر في مدينة نورنبرغ. وإذا كانت الرحلة الأولى لم تحقق نتائج ملموسة، فإن الرحلة الثانية أعطت ثمارها وتمّ توثيق مجملها تقريباً بفضل الرسائل التي كان يبعثها لصديقه ويليبالد بيركهايمر، وهي غالباً ما كانت غنية بتفاصيل مهمّة تصف تطلعاته واكتشافاته في البيئة الجديدة، من بينها ألبسة أناس البندقية وأسلوبهم في الطعام والحياة الاجتماعية، بالإضافة إلى أنها تكشف مزاجه الشخصي المتقلّب.

هذا الجانب الشخصي من دورر، وكذلك من الفنانين الذين يظهرون معه، يركّز عليه المعرض في قسم بعنوان "اكتشاف الفرد": الإنسان، الفنان"، وهو قسم مخصص للبورتريه باعتباره فناً الذي يجسّد رؤية الفنان وأسلوبه الخاص في سبر أعماق النفس الإنسانية.

أما القسم الخامس، فهو بعنوان "آلبرخت دورِرْ مصمّم المطبوعات: القيامة وحقب علم اللاهوت المسيحي"، وهو قسم يحاول التركيز على جانب كان مثار جدل كبير حول المواقف المختلفة لدورِرْ ولمعاصريه تجاه الجدل الديني والروحي في عصره.

بينما يمثل القسم الأخير، وهو بعنوان "الكلاسيكية وبدائلها" وقفة تحاول أن تطلّ على "النظام الجمالي" الذي ميّز هذه الفترة التاريخية المهمة. فالنموذج الكلاسيكي كان هو التيار الطاغي والمنتشر في إيطاليا، ومع أنه كان موجوداً في ألمانيا أيضاً، إلّا أنه كان قد أصبح موضع شك في عالم الفن الجرماني في تلك الحقبة، من خلال إعادة مناقشة المواضيع الكلاسيكية مع تباين التعبيرات التي خلقت ظاهرة فعلية مناهضة للكلاسيكية.

وبالتالي، فإن عصر النهضة "الكلاسيكي" كانفتاح عالمي، كان يمثّل انتقالاً حقيقياً للأفكار ما بين شمال وجنوب أوروبا، ذلك "العصر الذهبي" -بالأخص في نهاية القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر- الذي منح العالم أعمالاً خالدة في الأدب والفلسفة والفن.

ويمثل الفنان القادم من نورنبرغ في روائعه أحد أكثر الأمثلة نجاحاً في تلك اللحظة من الانفتاح الثقافي الذي كان في أوْجِهِ، والذي تميز بانتشار الأفكار الفلسفية الجديدة على نطاق واسع وبتطوير تحوّلات النموذج بلا حدود، أقل ما كان فيه توسيع الحدود الجغرافية، وبدء مرحلة "الكولونيالية" التي كانت فيها منطقتنا الخاسر الأكبر.

المساهمون