سمير.. رحلة تحرّر من الاستشراق الذاتي

سمير.. رحلة تحرّر من الاستشراق الذاتي

10 مارس 2016
(من ملصق "أوديسا عراقية")
+ الخط -

عاش المخرج العراقي السويسري سمير جمال الدين، المعروف باسم سمير، سنواته الست الأولى في بغداد لأب عراقي وأم سويسرية تحدثت معه فقط بالعربية. غادر العراق عام 1961 مع والديه وأختيه إلى سويسرا بعد أن أصبحت الأوضاع معقدة وصعبة سياسياً.

لدى وصوله إلى سويسرا، لم تتمكّن والدته من أن تعطيه جنسيتها؛ لأن الأم، بحسب القانون السويسري آنذاك، لم تكن تقدر على نقل جنسيتها لأبنائها إذا كانت متزوجة من أجنبي؛ ما اضطره إلى تجديد إقامته باستمرار، ولم يحصل على الجنسية حتى بلوغه العشرين. في فيلمه الوثائقي "بابيلون 2" (1993)، والذي يعتبره الأول في ثلاثية سينمائية وثائقية ثانيها فيلم "انسَ بغداد" (2002) وثالثها "أوديسا عراقية"، يتناول سمير معنى وتبعات أن يكون هو الآخر الغريب في سويسرا بلد والدته.

تختلف سويسرا اليوم عن تلك التي كبر فيها سمير (1955)، رغم أن الوضع لا يخلو من الإشكاليات. وعن بداياته فيها وهو ابن السادسة، يقول لـ "العربي الجديد": "عشنا في إحدى ضواحي مدينة زيورخ؛ لم يكن الوضع كما هو اليوم من حيث وجود المنتجات العربية والمطاعم في كل مكان في أوروبا. اضطرت أمي، إلى جانب أبي، للعمل كثيراً، كما لم يكن لنا من أصدقاء سويسريين، أصدقاؤنا كانوا من الطليان الذين أتوا للعمل في سويسرا. أعتقد أن كل هذا كان مهماً جداً وله تأثير رئيسي على شخصيتي، خصوصاً المهن الكثيرة التي عملت فيها، إضافة إلى نشاطي السياسي وفصلي من التعليم بسبب تنظيم الإضرابات. لم تكن سويسرا رحيمة معنا".

للوهلة الأولى، يبدو فيلمه الوثائقي الأخير "أوديسا عراقية"، في موضوعه كأي فيلم آخر يتناول مسائل، شائكة كالدكتاتورية والاحتلال والحرب الأهلية والطائفية، وتأثيرها على بنية المجتمع وتهجير عدد كبير من أبنائه؛ إذ يُقدّر عدد العراقيين الذين يعيشون في المهجر ما بين 4 إلى 5 ملايين. الفيلم، الذي انطلقت عروضه في نيويورك هذا الأسبوع، رُشّح لتمثيل سويسرا في فئتين للتنافس على جوائز الأوسكار وهما: فئة الأفلام الأجنبية وفئة الأفلام الوثائقية.

يتناول "أوديسا عراقية" حيوات عمّات وأعمام مخرجه سمير، وأولادهم الموزعين ما بين سويسرا وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا وأميركا ونيوزيلاندا، إضافة إلى حياته هو، في محاولة لسبر أعماق الذاكرة الجماعية والفردية، ومعنى الوطن والدين والحداثة والشتات في سياقها الجمعي والفردي.

يحاول سمير عرض صورة أكثر عمقاً وتسامحاً مع جيل من العراقيين والعرب طرَدَ الاستعمار والاحتلال وحارب الدكتاتوريات، لكنه لم يقطف ثمار تلك المعارك إلا لفترات قليلة. يوضح لـ "العربي الجديد": "إنه ذلك الجيل الذي وُلد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وناضل من أجل خلق أسس الحداثة والدولة الديمقراطية، إلا أن مشواره القاسي لم يتكلّل بالنجاح، ولذلك نجد كثيرين يتحدّثون عنه كجيل الهزائم وبنبرة سلبية. وأعتقد أن هذه النظرة مجحفة بحقهم وفيها نوع من الاستعلاء دون أن يعني هذا أنه لا يمكننا أن ننتقدهم، ولكن علينا أن نكون أكثر موضوعية معهم ونتذكّر أن المنتصرين هم من يكتبون روايات التاريخ عادة".

لجأ المخرج إلى العديد من الوسائط الفنية والتقنية لكي تدعم أسلوب الحكواتي الذي استعان به كإطار لجمع الأصوات المختلفة. من بين التقنيات التي استعان بها، الصورة ثلاثية الأبعاد (3D) التي شكلت تحدياً بالنسبة إليه لأنه يعتمد في جزء كبير من الوثائقي على الحوارات، إضافة إلى استخدام صور عائلية ومواد من الأرشيف الروسي والبريطاني والتركي والأميركي حول العراق وتاريخه في العقود السبعة الأخيرة؛ ما يجعل استخدام هذه التقنية في هذا السياق معقدة بعض الشيء.

 يشرح سمير "استمر العمل على الفيلم عشرة أعوام. طفتُ في السنة الأولى نصف الكرة الأرضية لأجري المقابلات واعتمدت على أسلوب تطوير الفيلم أثناء العمل، وهو عكس ما أقوم به عادة. بعد عام، كان لدي جميع الحوارات، ولكن اضطررت إلى تسجيلها مرتين إضافيتين؛ الأولى للحصول على عصارة الحديث، والثانية لأنني قرّرت استخدام تقنية الـ 3D". يكمل "اعتقَد بعضهم أني جننت، لكن كان هذا ضرورياً بالنسبة إلي لأعطي بُعداً تقنياً فنياً ونشعر كأننا نلامس الشخصيات وأنها تجلس معنا عندما نراها على الشاشة".


 
يتوقف "أوديسا عراقية" عند إرث سمير العربي والإسلامي والعراقي من جهة، وإرثه السويسري من جهة أخرى. عن الأول يقول "أحد المواضيع التي يتناولها الفيلم مسألة أن جدي لأبي رجل منفتح أصرّ على أن يدرّس جميع أبنائه في الجامعات، بما فيهن الفتيات. ولم يمانع أن يعملن ويتزوجن ممن يرغبن. نحن نتحدث هنا عن شخص عاش في العشرينيات من القرن الماضي. وعلى عكس ما كنت أعتقد، لم تأت هذه النظرة من دراسته وتأثّره بالحداثة الأوروبية، بل من إيمان راسخ وقراءة وتفسير للدين والقرآن". هنا، كان على سمير نفسه أن يغيّر نظرته إلى عالم جده الذي كان ينظر إليه بنوع من "الاستشراق الذاتي" على حد تعبيره.


___________
هويّة مُختطفة
بدأ اسم المخرج سمير يتردّد في السينما العربية مع فيلمه "انسَ بغداد"، والذي تناول فيه موضوع اليهود العراقيين وحياتهم في فلسطين المحتلة، ومعنى أن تجد نفسك في مستعمرة العدو كعربي ويهودي وعراقي، وأن يختطف ذلك الكيان هويتك في محاولة لسلخ هويتك العربية عنك. ورغم أن الفيلم لم يُفهم في البداية، بل إن بعضهم حاربه، إلا أنه شكّل نقلة مهمة في مسيرته، وترك أثراً على السينما الوثائقية العربية.


اقرأ أيضاً: السينما العراقية: كاميرا تائهة بين النهرين

دلالات

المساهمون