ظاهرة حامد عبد الله في معرض استعادي

ظاهرة حامد عبد الله في معرض استعادي

05 ابريل 2014
"الراحة" / حامد عبد الله رائياً
+ الخط -


ينتمي الفنان المصريّ حامد عبد الله (1917 ـ 1985) إلى جيل التنويريين، حيث أخذ على عاتقه أن يقوم بالتنويع في المدارس الفنية التي انتمى إليها، من الواقعية إلى التجريدية، حتى وصل إلى الحروفية، فصار من روّادها المجيدين. وكانت آخر جدارياته لوحة ضخمة باسم "الغيبوبة"، مزج فيها بين وسائط الميديا والورق المقوّى، وعرضت للمرة الأولى في المركز الثقافي الفرنسي، على هامش الاحتفال الذي يقام حالياً في متحف الفنّ الحديث بمركز الأوبرا المصرية، الذي يستضيف معرضاً استعاديّاً لنماذج من أعماله الفنية.

اشتبك الرسام ـ وكان يعتزّ بهذا اللقب ـ مع الواقع من البداية، حيث صوّر حياة الفلاّحين، فيضان النيل في النوبة، بناء السدّ العالي، هزيمة يونيو والانكسار الذي تلاها، السوق، المقهى، بورسعيد، أسوان، الحيّ اللاتينيّ في باريس، الشخوص، المفاهيم، إلخ. ثم توصّل إلى مذهب الحروفية في الستينيات، فكتب: "الفنّ يعبّر ولا يروي، يشير ولا يشرح".

وهو ما نراه في لوحاته الحروفية التي تومئ إلى حروف قد تُقرأ وقد لا تُقرأ. ففي لوحة "الراحة" مثلاً، قد ترى اسم الله منحوتاً على الورق في كتل تمتلئ بخطوط عريضة وفرشاة بها "تهشير" رائع بالألوان، على أرضية هي جزء من نسيج اللوحة؛ أرض مشقّقة خضراء توحي بقُرب الازدهار، مع توحّش العطش فيها. لكن الألوان في التكوين هي أشبه برجل مضطجع، رجلاه إلى الأعلى ورأسه مدوّر في الأرض، ويمكن رؤيته على أنه كلمة "الله"، ما يجعل "معنى المعنى" مرتهناً بما في داخل الرائي، لا بما قصد الفنان في الأصل.

لم يعبأ عبد الله بفهم الآخرين لعمله. المهم أنه يأخذ من روح الشعب، من قوّته وضعفه، تعبيراً مرتبطاً ـ ولو بخيط رفيع ـ بالواقع، كما نرى في لوحته الباهرة "الجالسة"، حيث ثمة شكلٌ معين لامرأة تتكئ بذراعيها على فخذيها، ونتساءل أمامها عن سبب الجلوس وفحواه وغرضه ومآله. وفي هذا العمل وحدة بين الشكل والمضمون. فالشكل دلالة على التشكّل، والروح من مرآة السؤال، وعلى الرائي البقية. خلفية اللوحة ثقافية بصورة عالية، حيث تبدو "الكرمشة" و"التهشير" والعمق والزمنية علامات واضحة على فنّ يتجاوز مدى اللوحة إلى ما وراء اللوحة، في نفس الرائي ووعيه. وليس لنا أن نعبر مستطيل اللوحة إلا ونحن محمّلين بهَمّ هذه الجالسة، وما ترمي إليه من بؤس يتبدّى من عناصر اللوحة على ملامس الإحساس عندنا.

علامات على جدار الزمن

اعترف عبد الله بأن هاديه في البداية هو فنان العصر الوسيط "الغريكو"، الذي كان يحرّف في شكل الأشياء والشخوص، ويمطّ في اللون والفورم، ويلوّن كما لم يلوّن غيره من قبل. لكن عبد الله تحرّر منه، إذ لن نجد نقليداً أو تأثيراً واضحاً منه في لوحاته، لكنه يعدّ من آبائه الذين اهتدى بهم إلى عالم جديد وطريق مستجدّة. فقد طوّع ما رآه هنا وهناك من طبيعة مختلفة، وأرض أخرى، وثقافة غير مرتبطة بشكل مباشر بعالم العصور الوسطى، بل هي موّارة بنمط موازٍ من حضارة أخرى كانت لها علامات على جدار الزمن. وهو تفهّم جيداً حدود هذه العلامات وربطها بما رآه وهضمه من مزايا ومساوئ، مظالم ومآسٍ، في سبيل نهضةٍ ربما لم يرها للتوّ، فهو كان يرسم لعالم آنيّ يستشرف عالماً غير آنيّ.

ففي لوحة "تعميرة" مثلاً، رسم شخصين على طاولة في مقهىً فقير، بيد أحدهم أرجيلة يدوية مصنّعة من "جوزة" بسيطة، لكنه يمسكها كأرغول مستمتعاً بما يشرب، في خطوط ملوّنة كابية. الِنسَب غير واقعية بين الرجلين وسط فراغ في الخلفية، لكنه فراغ مشغول ببقايا شمس وفضاء رماديّ وأرض ليست كالأرض، بل كأنها سماء من تمازج اللونين في سماء وأرض اللوحة. والمزاج العام الانطباعيّ الذي يتلقّاه الرائي لا يختلف عما قد يراه غيره، لكن الرؤية في محيط اللوحة هي التي تتباين بين راءٍ وراءٍ، وفقاً لخلفياتنا الثقافية والمرجعية والمكانية، ولذكرياتنا.

رسم عبد الله عدّة لوحات حول جملة "المرأة = الرجل". فمرة خطّطها بالفرشاة، لكننا نرى الرجل ناهضاً عزيزاً ينظر إلى الأمام، بينما المرأة أشبه بالوردة وهي حامل أو نكاد نراها كذلك، وتنظر إلى أسفل في حنان غامر. وأخرى كتبها بفنط من اختراعه، وأخرى كأنها "سلويت" غامض. لكن في كلّ مرة يأتينا الانطباع نفسه تقريباً: الرجل الناهض المعتزّ والمرأة الحامل الوردة الحنون، لكن بطرق إبداعية لا نهاية لها.


الحرية امرأة من الشعب

وأنجز عبد الله عدّة لوحات عن كلمة "الحرية"، وكلمة "انهض"، وكلمة "الثورة"، وحرف الألف، لكن كالعادة في كلّ مرة بتعبيرات لونية وتشكيلية مختلفة للغاية، كأنه في كلّ منها رسام آخر يتحدّى الأول، ثم رسام ثالث يتحدّى سابقيه. وهكذا، نرى في كلّ مرة إحساساً مختلفاً ورؤية مختلفة، فـ"الثورة" تظهر تارةً منكسرة، وتارةً في عجين من الأجساد يطحنه ما يشبه الدبابات، وكأنه يستشرف ما حدث في "يناير 2011"؛ وتارةً ظافرة، في كلمة "انهض"، التي يصوّرها حروفاً مفكّكة، لكنها ذات عزم على القيام، أو حروفاً متفجّرة، في كلمة "الحرية".

وفي لوحة "أم صابر"، التي قد ترمز (أو لا ترمز) إلى مفهوم ثقافيّ أوسع من تلك المرأة، وأقصد البلد بشكل عامّ، تتجلى عبقرية عبد الله في كتابة الجملة على شكل امرأة منكسرة تحنّ على ما يشبه الولد في حضنها، تحتها ظلال بنفسجية كثيفة تشير إلى البؤس، ضمن سواد غامر أسفل يمين وأعلى يسار اللوحة. حتى لكأننا نخرج من رؤية اللوحة مغمومين، لكن حين نمعن النظر نرى دائرة في أعلى اللوحة، كأنها المركز، دائرة سوداء وسطها نور أصفر باهر، لا يمكن تجاهله؛ ففيه عبير من الأمل، رغم الأسود الطاغي والبنفسجيّ الكابيّ والأحمر الباهت كأنه نقطة حيض.

أما حرف الألف فنراه في أعمال كثيرة متمثّلاً في عدة مفاهيم، مثل لوحات "المناضلة"، أو "حرف الألف"، أو "الصمود"، أو "سفر الرؤيا"، أو "أهل الكهف". حرفٌ قد يلتحم مع أشياء تعوقه، إلا أنه ينهض، سامقاً، كذراع إلى السماء، إلى الاعتزاز بالتراث، إلى تولّي المسؤولية، إلى فيض من الحكايات البصرية التي تثير فينا التطلّع كلّ مرة بمفهوم جديد.

ولا تبتعد هذه الحكايات عن تمارين اللغة، لكنها بيد عبد الله فنّ يتضامن مع أمل الشعب وكفاحه، في صورة سامقة تدفع من يراها إلى الترحّم على فنان لم يأل جهداً في سبيل التنوير، مستعيناً بلغة تشكيلية لم ترً في "الجميل" غايةً للرسم، بل مالت إلى ثورة في "قوة التعبير" تحفر في الرائي أبعد من أيّ إحساس، وأكثر من أيّ بلاغة، وأحنّ من أيّ مفهوم مباشر.

المساهمون