نينا سيمون.. جميلة غاضبة وخائفة

نينا سيمون.. جميلة غاضبة وخائفة

25 يوليو 2015
(تصوير: ديفيد ريدفيرن)
+ الخط -

"السيدة سيمون، أنت معبودة الجماهير ومحبوبة الملايين الآن. ولكن ما الذي حدث؟". السؤال المأخوذ من مقالة كتبتها الشاعرة الأميركية مايا آنجلو، تخاطب فيها نينا سيمون (1933-2003) بعد مغادرتها الولايات المتحدة عام 1970، هو الذي افتتح به الفيلم الوثائقي "ما الذي حدث يا سيدة سيمون؟" للمخرجة ليز غاربو، والذي بدأ عرضه مؤخراً في نيويورك.

ولدت سيمون لعائلة فقيرة في مدينة صغيرة في ساوث كارولاينا، جنوب الولايات المتحدة، أثناء فترة الفصل العنصري. تعلّمت عزف البيانو في الكنيسة وهي في الثالثة من عمرها. بعد سنة تغيّرت حياتها جذرياً عندما تبنتها مدرّسة موسيقى سمعتها تعزف في الكنيسة.

يعتمد الفيلم على مقاطع من مذكراتها، إضافة إلى مقابلات لم تعرض سابقاً، وشهادات لمقرّبين ومطلعين. ويُظهر المنطقة التي عاشت فيها والطريق الذي كان عليها أن تقطعه أكثر من مرة أسبوعياً، من حيّها ذي الأغلبية السوداء إلى مدرّستها البيضاء، والشتائم التي كانت تتلقاها من عنصريين بيض، ليتفاقم الخوف المجبول بالغضب والذي سيرافقها إلى مماتها، ويتجلى بطرق مختلفة. ذلك الخوف الذي تقول عنه في الفيلم "تمنيت لو أني عشت نصف عمري، ولكن من دون خوف".

سعت سيمون لتحقيق حلمها بأن تصبح أفضل عازفة موسيقى كلاسيكية على البيانو في العالم، وأول عازفة بيانو سوداء تعزف في قاعة "كارنغي" الشهيرة في نيويورك. لكنها لم تُقبل لدراسة الموسيقى الكلاسيكية والبيانو في مؤسسة "كورتيس" الموسيقية، لأسباب عنصرية، كما يوضح الفيلم. ترك هذا أثراً كبيراً على حياتها وجرحاً لن يلتئم، لأنه هشّم الحلم الذي كانت تسعى إليه منذ عامها الرابع.

اضطرت سيمون إلى عزف وغناء الجاز والبلوز في الحانات كي تعيل عائلتها ونفسها. وستبقى علاقتها مع الجاز ملتبسة، إذ تقول: "عندما لا يفهم البيض الموسيقى التي تعزفها، فإنهم يسمونك مغني جاز".

تمكنت سيمون من خلال معرفتها الواسعة بالموسيقى الكلاسيكية من تقديم أسلوب جديد. كما برزت موهبتها الفذّة وصوتها المميّز، إضافة إلى إمكانياتها في العزف والانتقال من أسلوب إلى آخر في الأغنية الواحدة.

يتطرق الفيلم أيضاً إلى علاقة سيمون الملتبسة مع زوجها، حيث كان مديراً ناجحاً لأعمالها وساعدها على تحقيق شهرة ونجاح تخطّيا حدود الولايات المتحدة. لكن هذه العلاقة ستتدهور لأسباب عديدة منها تعنيفها، كما أن نضوجها فنياً وسياسياً زاد من الهوّة بينهما، إذ كان يفضّل أن تعزف وتغني موسيقى الجاز التجارية.

ارتبطت سيمون بحركة الحقوق المدنية للسود ورموزها مثل مالكوم إكس ومارتن لوثر كينغ والكاتب جيمس بالدوين. وأثرت وتأثرت بتلك الحركة، حتى أنها أصبحت همّها الرئيسي الذي كرّست فنها لأهدافه. لكن مجتمع الأغلبية لم يرغب بسيمون المسيّسة، وخاصة عندما بدأ خطها السياسي يتضح، وعندما أيّدت الكفاح المسلح واستخدام العنف بغية نيل الحقوق المدنية، حتى أنها قالت لـ كينغ، قائد حركة الحقوق المدنية الذي رسخ مبدأ اللاعنف، حين التقت به "أنا لست مسالمة".

لعلّ أشهر أغانيها من تلك الفترة، والتي شكلت علامة فارقة في تغيّر مسارها السياسي والفني، كانت "مسيسيبي غاد دام" أو "لعنة الله عليك يا مسيسيبي" (1963). كتبت سيمون كلماتها بعد مقتل أربع فتيات سوداوات بتفجير كنيسة من قبل عنصريين بيض. وأصبحت الأغنية رمزاً لحركة الحقوق المدنية في أميركا، حتى مُنع بثها في إذاعات ولايات عديدة.

وعن العلاقة بين الفن والسياسة تقول "إن جمالي وخصوصية عملي تكمن في قراري بأن أعكس الزمن الذي أعيش فيه. لا أعتقد أن لديك أي خيار آخر كفنان، سوى أن تعكس هموم الفترة التي تعيش بها، وخاصة عندما يكون كل يوم عبارة عن صراع من أجل البقاء".

لم تعد سيمون إلى الولايات المتحدة، وتنقلت في العقود الثلاثة الأخيرة بين أفريقيا وأوروبا، لتستقر في باريس ثمّ جنوب فرنسا. عاشت، في تلك السنوات، الكثير من المعاناة والاكتئاب والوحدة. لكنها عادت بقوة في العقد الأخير من حياتها لتحقق نجاحات جديدة، خاصة بعدما تخطّت الاكتئاب المزمن.

حصلت سيمون على جوائز عديدة من بينها "غرامي" (2000)، إضافة إلى ترشيحها 15 مرة للجائزة عن أغانٍ مختلفة، وحصولها على شهادات فخرية، أهمّها "عاطفياً" تلك التي حصلت عليها قبل وفاتها بيومين، من مؤسسة "كورتيس" الموسيقية التي رفضت طلبها الالتحاق بها، وهي طفلة، لأسباب عنصرية.

تشكل سيمون ظاهرة نادرة وفذة في عالم الموسيقى، فقد أصدرت 40 ألبوماً، وألّفت جزءاً من موسيقاها، كما قدمت عزفاً وتوزيعاً جديداً لبعض كلاسيكيات موسيقى الجاز.

ليس هذا أول فيلم يتناول حياة أيقونة الموسيقى الأميركية السوداء، لكن ربما يكون الأول الذي يغور في تفاصيل حياتها وموسيقاها، ويضعها في السياق التاريخي والسياسي لجيل من الفنانين الأميركيين السود الذين عاشوا وانخرطوا في النضال ضد العنصرية.

المساهمون