"عفو" السياسي وذاكرة الرواية

"عفو" السياسي وذاكرة الرواية

16 ديسمبر 2016
رشا جابر/ سورية
+ الخط -

أطلق الرئيس السوري، شكري القوتلي، في بداية عهد الاستقلال عبارة شهيرة هي "عفا الله عمّا مضى"، وكان يقصد الاستعانة بالله للعفو عن السوريين الذين تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي إبان احتلاله سورية، ومن بينهم عسكريون ومدنيون ارتكبوا جرائم بحق السوريين، وخاصّة أولئك الذين تطوّعوا في "جيش الشرق" الفرنسي. وبسبب عبارة القوتلي، التي تحوّلت إلى ما يشبه القانون غير المكتوب، وصل عددٌ من هؤلاء الذين كانوا ضباطاً في جيش الاحتلال إلى مناصب سياسية كبيرة.

اللافت أن سورية دفعت ثمناً باهظاً لهذه المقولة من جهة قيام أولئك الضباط أنفسهم بعشرات الانقلابات العسكرية. كما أُقيل شكري القوتلي من رئاسة الجمهورية من قبل الضابط الذي كان أوّل من استفاد من مقولة "عفا الله عمّا مضى"، وهو حسني الزعيم.

يمكن للسياسي أن يقدّم أعذاراً برغماتية كافية له، أو لغيره، في مسائل العفو، وثمة مروحة واسعة من العبارات المنافقة التي تقرن العفو بالتسامح حيث تضعهما في طليعة الأفعال التي تجسّد قيمة إنسانية عليا. ويظنّ منتجو مراسيم العفو أنها يمكن أن تنسخ الأحقاد. هذا احتمال بعيد. غير أنها تحتقر العدالة بالتأكيد. وأخطر ما في الأمر، في مثل هذه الحالات، أن يكون العفو فعلاً انتهازياً ينوي التعتيم على الجرائم، أو إعفاء القتلة من تبعات الانتهاكات التي مارسوها ضدّ غيرهم من البشر أو الاستفادة منهم في أجندات مختلفة. وفي هذه الحالة تؤجّل العدالة، وتُرغم على التواري.

ولكن ماذا يفعل الروائي في هذه الحالة؟ يصعب على الرواية أن تسمح بالعفو، من غير أن تكون ضد العفو والتسامح بالطبع. لا تقدّم الرواية عفواً، ولا تستطيع، ليس لأنها تخزن الحقد، أو تدعو إلى البغضاء، بل لأنها تحرم نفسها من الذاكرة، أو من الصدق (وهو الجوهر الذي يشتغل عليه الروائي) إذا ما اشتغلت على الموضوع من هذه الجهة التي تجعل الروائي يناور، ويتغاضى، ويصمت، ويتجاهل الجرائم التي ارتكبت ضد الناس في الزمن الذي مضى من حرب المستبدّين ضد الشعوب، أو جرائم الذين يساندون المحتلين.

الرواية تسأل لماذا حدث في ما مضى ذلك الفعل أو غيره؟ وتسجّل كيف ومتى نفّذ هذا أو ذاك الجرائم ضد الآخرين من الذين عاشوا في زمنه، دون أن تعنى في ما إذا كان يريد أن يعفو، أو يبحث ويدعو إلى العفو، حين تنتهي الحرب. الأدهى الذي ستواجهه الروايات والروائيون هو أن يكون المنتصر هو الذي يدّعي أنه يدافع عن القيم الإنسانية، أي هو الذي يسجل جرائمه على أنها انتصار القيم.

ربما يستطيع "المنتصرون" إرغام التاريخ على أن يكون صوتهم، غير أن الرواية ستكون صوت المغلوبين الذين يصرخون في الشوارع السورية المنتهكة من قتلة العالم السفلي، وهم يطلبون أن لا تهدر الحسابات السياسية أو الدينية دماء الضحايا. وعبارة "عفا الله عمّا مضى"، التي تحمل في طياتها أسراراً عن المذابح والخيانات التي يرتكبها البشر، لا يمكن أن تكون لغة الرواية. فالرواية لا تعفو، وليس بوسعها أن تعفو عن أحد.

دلالات

المساهمون