"فراعنة مصر الحديثة": معادلات السلطة لا تتغيّر

"فراعنة مصر الحديثة": معادلات السلطة لا تتغيّر

25 يناير 2016
لقطة من الفيلم
+ الخط -

"كل فرعون يمحو ويطمس من قبله، أو في أحسن الأحوال يضع طبقة من الحجارة فوق منجزات من سبقه؛ هكذا فعل الفراعنة، ويفعلون". بهذه المقولة، تبدأ ثلاثية الأفلام الوثائقية "فراعنة مصر الحديثة"، للمخرجة المصرية جيهان الطاهري، الذي بُثّ لأول مرّة منذ أيام على قناة "أرتي" الألمانية - الفرنسية.

فراعنة مصر الحديثة ليسوا سوى رؤسائها بين "ثورتين" (1952 و2011)؛ جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، على ما بينهم من فروق. وفيما بدا للبعض أن موجة "ميدان التحرير" أسقطت إرثهم، يتقصّى الشريط تلك التركيبات التي تظل تتشكّل من مرحلة إلى أخرى، لتجعل من تاريخ مصر السياسي وحدة تكاد تكون محكومة بمعادلات ثابتة.

يضع الفيلم حادثة حريق القاهرة كنقطة بداية، ومن خلال شهادات مثقّفين ورجال سياسة، تعود الطاهري إلى أسباب قيام حركة الضبّاط الأحرار. التركيبة واضحة: فساد وسوء توزيع للثروة والسلطة؛ الخلطة نفسها التي تقود في كل مرة إلى الانفجار.

تركّز المخرجة في عملها على تقاطع الحركات السياسية السرية مع الحياة العامة، والتقائها بما يحدث داخل أسوار المؤسّسات الرسمية، مثل الجيش والشرطة. ومنذ هذا الجزء من الثلاثية، تبدأ في تتبّع خيط العلاقات بين قطبين: الإخوان والجيش، وصراعهما المتواصل.

استفادت المخرجة بشكل جيّد من السينما المصرية، حيث مزجت الشهادات والصور الأرشيفية بلقطات من عدّة أفلام تستعيد تلك المرحلة، وتعيد المشاهد إلى مناخاتها، وقد ظلّت تستفيد من هذا العنصر في بقية الأجزاء، كما استعملت في تقسيم المشاهد عناوين الجرائد المصرية وأغلفتها، لتمنح عملها أبعاداً توثيقية وجمالية متلاحمة.

حين ترصد لحظات التغيير في مصر، تسلّط المخرجة الضوء على ما يكتنف تلك المنعطفات من أحلام وطموحات، ثم تبدأ في تفصيل كيف جرى الالتفاف على المطالب، ويبدأ ميكانيزم صناعة الفرعون الجديد، الذي يلتقط غالباً الشعارات نفسها المرفوعة ضد من سبقه ويتبناها قبل أن يُفضي حكمه إلى النتيجة نفسها.

في الجزء الأول، تبرز ثنائية "الثورة والديمقراطية" كمحرّك للصراع بين أول رؤساء مصر، محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، إذ رأى الأخير بأنه لا بد من التضحية بالديمقراطية لإنقاذ الثورة؛ سيناريو سرعان ما يشار للمشاهِد بأنه يتكرّر باستمرار، مرّة باسم الثورة وأخرى باسم التنمية وثالثةً باسم الاستقرار، وفي كل مرّة تُستعمل الأدوات نفسها بتوزيع جديد، من الدفع بالمظاهرات الشعبية والضغط على وسائل الإعلام، إلى مغالطة القوى السياسية والاجتماعية.

في محطات معيّنة، تفتح الطاهري الأفق على السياقات الجيوسياسية لمصر، وكيف استُعملت هي الأخرى في سبيل توجيه الرأي العام الداخلي، مشيرةً إلى "أوهام بناء مصر القائدة للعالم العربي وأفريقيا والعالم الثالث".

يفكّك الفيلم الكثير من الثنائيات التي يلتقطها قارئ التاريخ المصري المعاصر، لعل أبرزها ثنائية السياسة والدين التي قد تكون الأكثر انكشافاً لمتابع ما بعد 2011. يشير العمل إلى أن الهندسة الفرعونية للحكم كانت تستدعي دائماً مباركة دينية.

ثنائية أخرى يهتمّ بها الفيلم وهي "الفرعون وحاشيته"، فالأول منذ أن يتّخذ موقعه حتى يبدأ في ملء خزّان الأبوية، من خلال الوعود وقرارات العفو، ويندرج كل ذلك في عملية دفن الفرعون السابق، وفي الوقت نفسه وراثة الماكينة التي اشتغل بها. في مقابل ذلك، تتحوّل حاشية الفرعون إلى شمّاعة لكل المساوئ والأخطاء. في الجزء الثالث، يدرس العمل من خلال موقع "الرجل الثاني" هذه الثنائية، مستشهداً بإنهاء مبارك لمنصب نائب الرئيس (الذي أوصله إلى الحكم) ليبدأ التمهيد لظهور آلية التوريث.

ثمّة أيضاً ثنائية "الولاء والكفاءة" في مواقع القرار المصري، والتي يقوم الفرعون من خلالها ببناء كل أجهزة الدولة المصرية، وعادة ما تفضّل العقلية الفرعونية للحاكم المصري الولاء على الكفاءة. كل هذه الثنائيات، يجري التلميح إلى استمراريتها رغم اختلاف العصور.

لا تتناقض هذه الاستمرارية مع التحوّلات العميقة التي تشهدها مصر من زمن إلى آخر، فحتى أكثر الخيارات تبايناً لا تمثّل تغييراً في عقلية الحكم. يظهر الفيلم أنه لا فرق بين علمانية عبد الناصر المتداخلة بالاشتراكية، وتحالفات السادات مع الإسلام السياسي أو خياره بالانفتاح الاقتصادي.

ما ترصده الثلاثية هو تلك "الطبقة التي يضعها كل فرعون لإخفاء من سبقه"، فإذا كان عبد الناصر قد وضع طبقة العسكريتاريا في صدارة المشهد السياسي، فإن السادات لم يلغ ذلك بل وضع طبقة أخرى من الأثرياء الجدد، سيقوم مبارك بإدماجها أكثر في معادلة السلطة، وكل ذلك موضوع فوق طبقة قديمة هي البيروقراطية، ما أنتج النظام الذي سيرتطم بقوّة بـ25 يناير، لكنه في النهاية - وبعد ترنّح قصير - سيبدأ في استرجاع ملامحه الفرعونية، وإعادة السيناريو من البداية: رفع الشعارات، المغالطة في الأولويات، وصولاً إلى سوء التحكّم في معادلات الحكم المصرية، ثم معالجة ذلك بمضاعفة القمع. كل شيء يتغيّر في مصر إلا طريقة بناء السلطة حول الشخص: إنه نظام فرعوني منذ الأزل، حتى سُمّي الفرعون رئيساً للجمهورية.


اقرأ أيضاً: داود حسن.. حفر مضاد في السويس

دلالات

المساهمون