الوجه أيقونة الإنسان

الوجه أيقونة الإنسان

25 أكتوبر 2016
من أعمال الفنان، 1967
+ الخط -

جاء مروان قصّاب باشي إلى التصوير من الحكاية – الوجه، من الجسد - السيرة. بدأ تعرُّفُه على اللون والضوء والظل داخل دكان نسّاخ دمشقي، هناك شهد أول لوحة، وسرى في داخله شعورٌ فريد بالنشوة، وسرعان ما جلب ألواناً من محل الكزبري على ضفاف بردى، ومنذ ذلك اليوم الدمشقي البعيد بدأت الرحلة.

فضّل الأقرب والأصعب: النظر والتحديق في ما هو قريب وربما سابق على التعبير نفسه؛ فالوجه بما هو تكثيف للجسد، يسبق القول مثلما تسبق الصورة الكلمة.

كان هذا الملتقى الأولي والحميم مكان امتحانٍ جسدي داخلي مديد، كان إظهاراً للجوف والداخل. كان بداية سرعان ما تحوّلت إلى طريق طويل، وتجمّعت الحكايات داخل بؤرة تضخّمت واتسعت وبقيت داخل الوجهة الكثيفة نفسها. حضر الحس الدرامي من خلال نقيضين هما التأمّل الصوفي ومأزق الوجود الإنساني، التسامي والغوص، البعد والقرب.

من هنا ربما كانت الوعورة الترابية نجاةً من الصفاء النقي، من الثبات والجمود، وكانت المتانة درباً يعيد الحفر في الحكاية الأولى نفسها، في لحم الوجه وترابه وتجاويفه ومنعرجاته.

خلق قصّاب باشي مسافات مديدة داخل حيّز ضيّق، حوّل الوجه إلى صندوق أسرار وعتبات كشفٍ وملاذ حكايات. لم يكن الغموض قناعاً قدر ما كان قرباً حسّياً من تعبير مكدود. سافر في الوجه ومن خلاله كوّن سرداً بصرياً لافتاً، كما لو أن الوجه مدارٌ لضياء الشمس، وعاد إلى الجسد الإنساني بوصفه مغارة ومنارة في آن واحد.

وجوهه تعبير فريد عن "مجاز أرضي"، يلعب التكرار فيها ما يحفره الزمن في الوجه والجسد، هنا نجد ندوب مرور الوقت، نجد البقع الملطخة، والنفور الممتلئ، والتقعّر الغائر.

يكبر الجسد ويتّسع ثم يتكثف في الوجه. يتحوّل الوجه إلى نبع وإلى مركز مشعّ. هذا الاستقبال الوجهي والمباشر يكاد يختصر عالم اللوحة، يتحوّل إلى احتفال وإلى استقبال، إلى ضم وجمع غزيرين. غير أن الاختصار خادع، فهو ممتلئ بالسعة ومضموم على خصوبة لونية حارة.

يمكننا القول إن شغفاً مرآتياً يحرّك مبدأ اللوحة، أنّ المرئي من الوجه لم يعد الوجه فحسب، بل يكاد الوجه يمُحى خلف أديم الأرض وخلف السيرة الذاتية وخلف مرور الزمن. إنه يبتعد وينأى كما لو يغوص في مياه عميقة، وما يطفو هو ما لم يعد من الممكن عودته، ما يطفو هو الطريق والمعبر، هو السير والنظر والاستعادة والحمل. غير أن مروان لا يكفّ عن سحب الوجه وجرّه وبسطه وإحضاره. من هنا الوجه هو هذا الدأب وهذه المساحة التي تمتحن العبور والبعد، الغياب والحضور، الغيبوبة والذاكرة.

تأتي الرهافة من الحلم، كما تأتي المتانة من قوة التجذّر. ما هو معوّج ومتداخل ومركّب حصيلة حلم يقلب مراتب الزمن، وما هو حصين ومتين أقرب إلى تحجّر حميم، أقرب إلى تحقيب الطبيعة داخل الوجه، وتحويل الوجه إلى مختبر للطبيعة.

ثمة ما هو شَجَريّ لدى مروان، ما هو متجذّر وطافٍ ومُتَغاصِن. بهذا المعنى فالوجه لم يعد وجه الإنسان فحسب، إنه الوجه الذي عاش ورأى، رحل وسافر وتحوّل وتذكّر، استقبل واستعاد. إنه بهذا المعنى أيقونة الإنسان، حكايته ومسار معناه.


دلالات

المساهمون