حنين إلى العراق... سهرات بغداد تحرّك أشواق المغتربين

حنين إلى العراق... سهرات بغداد تحرّك أشواق المغتربين

23 اغسطس 2019
المغتربون العراقيون يحنّون إلى هذه الأجواء (صباح عرار/فرانس برس)
+ الخط -
يعزو الخمسيني فلاح رضا معاودته زيارة بلده العراق، للمرة الثانية على التوالي خلال هذا العام، إلى مقاطع الفيديو والصور التي تصله إليه عبر "واتساب" و"فيسبوك" لأهله والأجواء التي يفتقدها في الولايات المتحدة حيث يعيش.
يقول رضا الذي لم يغادر الولايات المتحدة منذ وصل إليها مهاجراً من بلده العراق عام 1992، سوى العام الماضي، إنّه غير قادر على ترك مسؤولياته فيها لخمسة أيام متتالية فحسب، إذ عليه متابعة شؤون محله المتخصص بإعداد المعجنات.
وعلى الرغم من حنينه لوطنه الأم فـ"الأوضاع الأمنية الخطيرة التي يعيشها" لم تكن تشجعه على الزيارة.
تلقيه مقاطع فيديو وصوراً بشكل مستمر من قبل أصدقائه وأقاربه وهم يجتمعون ويسهرون في مناطق معروفة بالسهر في بغداد ألهب لدى رضا الحنين، وشجعه ليزور بلده بعد 29 عاماً على مغادرته، بحسب قوله.
يوضح لـ"العربي الجديد": "زيارتي في العام الماضي كانت خاطفة، لخمسة أيام فقط، لكنّها غيرت فيّ كلّ شيء، إذ أعادتني إلى أيام طفولتي وشبابي. وفي تلك الزيارة كنت أسهر حتى الصباح في المناطق التي أحبها مع من بقي حياً من أصدقائي القدامى".
يتابع: "هذا العام هيأت نفسي لوقت أطول. قررت أن أحضر العيدين؛ الفطر والأضحى في العراق، لكي أزور بعض المحافظات أيضاً. لا أعرف هل أشكر وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أغرتني بعودة أجواء السهر لكي أزور بلدي، أم ألعنها لأنّها تجعلني أهمل عملي، فتنخفض إيرادات محلي إن غبت عنه".
لم تكن بغداد مثلما هي اليوم قبل سنوات قليلة؛ فكانت كلما شهدت تحسناً أمنياً تعرضت مناطق فيها تشتهر بالسهر إلى تفجيرات إرهابية، تعيد الرعب إلى قلوب السكان وتمنعهم مرة أخرى من التجوال الليلي والسهر، ولطالما كانت هناك تفجيرات أطلق عليها "دامية" لما خلفته من عدد كبير من القتلى والجرحى والدمار، لعلّ من بين أبرزها تفجير في حي الكرادة في يوليو/ تموز 2016، خلّف 324 قتيلاً و250 جريحاً، فضلاً عن دمار كبير في المباني والممتلكات الخاصة.

تلك التفجيرات التي كان تنظيم "داعش" يتبناها دائماً، كانت توقع في قلوب العراقيين المغتربين الخوف من زيارة بلدهم، خصوصاً أنّ عدم استقرار الأمن في البلاد كان يتواصل منذ غزوها في 2003. لكن، منذ نهاية عام 2017 تغيّر الوضع كثيراً في العراق، إذ أعلنت حكومة البلاد استعادة السيطرة على جميع المناطق التي كانت تقع تحت سيطرة "داعش".
يقول مالك المشهداني إنّ 12 عاماً أمضاها متنقلاً بين عدة دول حتى استقر في ماليزيا، جعلته يعاني من أمراض عدة، فهو لم يكن قد غادر أرض بلاده قبل عام 2004، لكن ما يصفه بـ"تدهور الأمن" دفعه إلى الهرب.
المشهداني وهو ستيني، يشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّ حنينه إلى بلده والتجول فيه ليلاً كان يرافقه أينما حلّ وارتحل، وبحسب قوله فإنّ هذا الحنين "هو ما جلب لي الأمراض. لقد أصبت بمرض القلب". يقول المشهداني إنّ إخوته كانوا ينصحونه بالبقاء خارج البلاد وعدم زيارتها إلى أن يستقر الأمن: "كانوا يقولون لي إنّهم يريدون أن ينجو فرد من العائلة هو أنا؛ فهم كانوا يعتقدون بأنّهم قد يقتلون في أي وقت بتفجير ما. عدم الاستقرار الأمني هذا كان يزيد وجعي كلما طال".
يستطرد: "كنت أتابع المعارك التي تجرى في العراق لتحريره من الإرهاب. لم أتوقف عن الدعاء بالنصر لبلدي وهزيمة الإرهابيين. كلّ همي كان أن يعود الأمن ويستقر في بلدي لكي أزوره وهذا ما حصل". 
يضيف: "بدأت تصلني جلسات السهر وأجواء الليل في بغداد من قبل إخوتي واجتماعهم في المناسبات. كنا نتواصل عبر البث الحي وأشاهد الناس يتجولون في الأسواق ويرتادون المقاهي والمطاعم في وقت متأخر من الليل على الرغم من عدم الانتهاء من تحرير البلاد بالكامل. وهنا لم أسمع نصيحتهم، إذ طلبوا مني أن أتريث حتى يجرى القضاء على الإرهابيين، فعدت في زيارتي الأولى قبل عام من إعلان تحرير البلاد بالكامل". 
يشير إلى أنّ زيارته هذه كانت الخامسة له منذ عام 2016، وينوي العودة بشكل نهائي بعد إتمام ولديه دراستهما الجامعية في ماليزيا.
لليل بغداد صوته أيضاً لا صورته فقط، هذا ما يعتقد به عراقيون يعشقون ليل بلادهم، وهو ما كان من بين الأسباب التي شجعتهم لزيارته بعد طول فراق. رؤى صباح، التي ولدت في السويد عام 2001، تقول إنّها تعرف عن بلدها العراق أكثر مما يعرفه غالبية سكانه فمكتبة والدها العامرة بكتب عن تاريخ العراق القديم والحديث قد زودتها بمعلومات عديدة، فضلاً عن متابعتها المستمرة لما يجرى على الساحة العراقية.

لكنّها تقول لـ"العربي الجديد" إنّ الفرصة لم تسنح لها لزيارة العراق؛ بسبب تردي الأمن في الفترة السابقة". أما أكثر ما شدّ انتباهها فهو "الصوت؛ صوت الناس في المقاهي. إنّهم يتحدثون بصوت مرتفع وهذا غير موجود في السويد، بالإضافة إلى أصوات الباعة في أسواق بغداد ليلاً. كلّ هذا كان يشدني وأنا أشاهده عبر بث حي أو مقاطع فيديو ترسل من قبل أبناء أعمامي في بغداد ممن أتراسل معهم".
يشاطرها والدها صباح النداوي، رؤيتها، فيقول لـ"العربي الجديد" إنّ "صوت الباعة والناس الذي يصدح باللهجة البغدادية الأثيرة على نفسي كان له شديد الأثر عليّ، ويأخذني لسنين بعيدة كنت أقضي فيها أيام الإجازات في السهر مع أصدقائي على كورنيش أبو نؤاس، أو في أحد أماكن السهر البغدادية".
يضيف: "أعترف أنّ وسائل التواصل الاجتماعي شجعتني على زيارة بلدي، وتعريف ابنتي ببلدها في الواقع الحقيقي وليس الافتراضي. هذه ثالث زيارة لنا إلى العراق. ما يؤسف له أنّنا ارتبطنا بأعمال ومصالح في بلاد الغربة، وهذا من بين الأسباب التي تمنعنا من الاستقرار النهائي في وطننا الأم".
في مطعم شعبي على ضفاف نهر دجلة بمحلة الكريعات، شمالي العاصمة بغداد، وهي المحلة التي عرفت بأجواء السهر التي لم تنقطع حتى في الأوقات التي كانت فيها العاصمة تتعرض لأعمال إرهابية بصفة مستمرة، يلتقط فاروق الدايني كلّ ما يدور في هذا المكان بكاميرا هاتفه المحمول، في شكل مقاطع فيديو، لعامل الشاي وهو يصب الشاي من الإبريق الكبير الموضوع على الفحم، وللمشويات من لحوم مختلفة وطريقة شيّها بينما يتحدث إلى العامل المختص، وبعدها يلتقط صوراً للأسماك وهي حية داخل حوض الماء، ثم يتحول إلى تصويرها بعد تجهيزها على طريقة "المسكوف" العراقية.
الدايني وهو شاب يبلغ من العمر 26 عاماً، يقول لـ"العربي الجديد" إنّ زيارته إلى العراق هي الأولى بعد مغادرته لها، رفقة عائلته منذ 15 عاماً، وهجرتهم إلى الولايات المتحدة الأميركية. يضيف: "هذه الأجواء عشتها في طفولتي. كان والدي يصحبنا ونسهر في أحد هذه المطاعم، لكن لسنوات طويلة حرمنا منها بعد مغادرتنا العراق".
يشير إلى أنّ تواصله مع أصدقاء طفولته لم ينقطع: "يثيرون بي الشوق، وكثيراً ما كنت أبكي حين يرسلون إليّ مقاطع فيديو وهم يتجولون في حيّنا ليلاً أو يسهرون في أحد أماكن السهر. ما أخّر زيارتي إلى بلدي دراستي الجامعية التي أنهيتها قبل عامين، وأيضاً الحالة الأمنية السيئة التي كانت تشهدها المدن". لكنّه يشدد هذه المرة: "لن أنقطع بعد الآن، بل سأزور بلدي باستمرار".

دلالات