النواري راجعي.. إرادة أطول من القامة

النواري راجعي.. إرادة أطول من القامة

13 مارس 2016
"لعقله سلطة عليه وعلينا" (العربي الجديد)
+ الخط -

جعل النواري راجعي الجزائريين ينسون قامته التي تتجاوز المتر بقليل، ليركزوا على إنسانيته ومواهبه الفنية، إذ حقق نجاحات عجز كثيرون من أبناء جيله عنها، وقد توّج ذلك كله بأن تزوج وأنجب فرح لتصير عنواناً لفرحه.

ينظر الجزائريون إلى قصار القامة بطريقة تختلف عن نظرتهم إلى باقي ذوي الحاجات الخاصة، لتؤطرها مقولة "أقربكم إلى الأرض أبعدكم عن الخير". لكن النواري راجعي نجح في قلب ذلك رأساً على عقب، وفرض نفسه عنواناً للخير والعطاء الإنساني والفني، بقامته التي تتجاوز المتر بقليل وإرادته التي تناطح النجوم.

يقول صاحب المقهى الذي يرتاده النواري: "كلما طلع علينا استبشرنا خيراً، فهو يبتسم دائماً ولا يعرف الشكوى أبداً، على الرغم من أنه يسري عليه ما يسري على الشاب الجزائري المتحدّر من عائلة بسيطة من مشاكل واحتياجات يومية". يضيف: "كل المدينة ترى في النواري رمزاً للكفاح والإرادة، لذلك فنحن نذكره لأولادنا الخاملين حتى نثير فيهم الغيرة، علّهم يجتهدون. لقد قلب العادة، وصار يشكّل عقدة لغيره عوضاً من أن يحصل العكس".

برمج النواري راجعي نفسه، منذ سني عمره الأولى، على أن يفاجئ محيطه بما لا يتوقعه منه، ويحقق فيه نجاحاً باهراً. ولد في مدينة برج بوعريريج، في الشرق الجزائري، في عام 1973، ليلتحق بالمدرسة عام 1979 ويضمن مقعداً له فيها بين تلاميذ يوصفون بالعاديين. لم يتزحزح من المراتب الأولى حتى المرحلة النهائية. يقول لـ"العربي الجديد"، إنه كان الأقصر قامة، لكنه كان الأكثر تفاعلاً مع الدروس. يضيف أنه "من غير أن أشعر، نقلت العقدة مني إلى الزملاء. كان المدرّسون يشيرون إليّ كلما أرادوا أن يبثوا روح الإرادة والالتزام في الصف. ولم أرَ نفسي يوماً إنساناً غير سليم، ولم أفرض على أسرتي ومحيطي أن يعاملاني على أنني من ذوي الاحتياجات الخاصة". ويشدّد: "علينا أن نراعي معطى الطول والقصر في الأحلام والإرادات، لا في الأجساد. ما قيمة أن تنافس لاعبي كرة اليد بطولك، وإرادتك لا تتجاوز رجليك؟".

يرى فيه الأصدقاء والمقربون "الحكيم" الذي يعودون إليه لحل النزاعات وفك المشاكل. يقول أحدهم إنّ "لعقله سلطة عليه وعلينا، فهو لا ينفعل أبداً إلا إذا رأى الكلاب التي يخافها كثيراً. ويتعامل مع المشكلة إذا طرأت بأعصاب باردة. وفلسفته في ذلك أنّه حتى نتغلب على المشكلة، علينا أن ننظر إلى الحل لا إليها، فتنهزم أمامنا وتُحل من تلقاء نفسها".

اقرأ أيضاً: ضريح سيدي عبد الرحمن

المفاجأة الثانية للنواري في محيطه، كانت التحاقه بالتمثيل المسرحي عام 1989 وظهوره في أكثر من مسرحية في أدوار رئيسية، كاشفاً عن قدرات أثارت انتباه النقاد. يقول: "لطالما كنت أبحث عن معنى لحياتي، وجرّبت بفعل هذا البحث أكثر من هواية. لكنني حين اكتشفت المسرح، قرّرت ألا أجرّب غيره، لأنني وجدت ذلك المعنى الجميل والنبيل الذي كنت أبحث عنه. المسرح هو الوجه الآخر للحياة، والذي يُمكننا أن نظهر من خلاله تماماً كما نحلم ونريد".

منحت "فرقة التاج" التي تعدّ من الفرق السبّاقة إلى ممارسة مسرح الشارع في الجزائر، فرصة للنواري راجعي كي يجعل الشارع الجزائري، من خلال عنصر الارتجال الذي تقوم عليه طبيعة هذا النوع من الفن، ينتبه إلى إعاقاته وأمراضه واختلالاته ونقائصه، إذ يُكثر من الكلام والانتقاد ويقلّل من أهمية الفعل والعمل. ويقرّ النواري أنه يحلم باليوم الذي تنتبه فيه الجماعة في الجزائر والوطن العربي إلى إعاقاتها، بالدقة نفسها التي تنتبه بها إلى إعاقات الأفراد. يسأل: "ما معنى ألا يضع الشارع حداً للأوساخ التي تغمر المحيط، ولا يحترم الفضاءات العمومية مثلاً، وتراه يساهم في ذلك، في الوقت الذي يبدي فيه انزعاجه منه؟ إننا نفرح بساعة الخروج من الدوام، بينما نشمئز من ساعة الالتحاق به، كأننا ذاهبون إلى المشانق، أليست هذه إعاقات جماعية أجدر بأن تثير الانتباه والسخرية؟".

يعترف سفيان عطية، أحد رفقاء النواري المسرحيين، بأنه يرى فيه "نموذجاً للتحدي، وأتمنى من أولادي أن يروه كذلك، في ظل انحسار القدوة الحسنة في الشارع الجزائري اليوم". ويخبر عطية "العربي الجديد"، أنهم قدّموا مسرحية جحا في مدينة حمام سوسة التونسية، وقام أحد الفنانين قائلاً إنه يستنكر استغلال الفرقة لقامة النواري، بما يتنافى مع الذوق وشرف الفن. ما كان من النواري إلا أن قال له: "لقد سمعتني أنطق وأتحرك وأرى وأفكر بشكل سليم، وأستعمل كل هذه الحواس في لعب دوري وإيصال الفكرة إلى المتلقي، فما الذي جعلك تعمى عن هذا كله وتراني قصيراً؟ أنصحك بمراجعة طبيب العيون، فقد صارت عيناك لا ترى في إنسان كامل إلا قامته".

وكشف عطية أن المخرجين المسرحيين يتعبون عادة في ضبط الممثلين أثناء التدريبات، ويتعبون في جعلهم يحترمون المواقيت، إلا مع النواري الذي لا يجدون أبداً مشكلة معه. يقول: "سألته مرة عن هذا الالتزام، فأجاب أن الالتزام في الشغل هو احترام للنفس قبل أن يكون احتراماً للآخرين".

"الحكيم"، كما يناديه الأصدقاء، طلّق حياة العزوبية قبل سنوات، بعدما لفت انتباه جارة أخته. أنجبا طفلة سمّياها فرح، يقول إنها ورثت عنه حب المسرح. ويخبر أنها "ترافقني عادة إلى العروض. وحين نعود إلى البيت، تنطلق عفوياً في إعادة ما أثار انتباهها من مشاهد". ويؤكد أنّ الزواج والأبوّة غيّرا حياته كثيراً، وجعلاه يبذل مزيداً من الجهود لكسب اللقمة النظيفة، في وضع جزائري باتت اللقمة فيه مُرّة، نظراً إلى صعوبة الحصول عليها بيسر.

اقرأ أيضاً: محاربة "تدعيش" الجزائريين بالكتب

دلالات