الليلة التي ذبحوا فيها أبي

الليلة التي ذبحوا فيها أبي

15 مايو 2014
رحلت عائلات كثيرة استولى اليهود على أراضيها (فرانس برس/Getty)
+ الخط -

"كنتُ طفلة صغيرة. كل يوم أحمل زهرةً أو عود زنبق إلى المدرسة. كنا نعيش في بيّارة (بستان) كلها أشجار برتقال ويوسفي وكلمنتين وليمون وخوخ. كان بجانب بيتنا بئر وبركة ماء. وكان شجر الزيتون حدود البيّارة. وفي ليلةٍ غاب عنها القمر، نزل اليهود علينا بالصواريخ ومحوا كل هذه التفاصيل.. إلا من ذاكرتي".

جلست السيدة منيرة شيحا، مرتدية عباءة مطرزة من التراث الشعبي الفلسطيني، وبلكنتها الفلسطينية الجميلة، روت لـ"العربي الجديد"، قصة النكبة التي عايشتها منذ أن كانت طفلة في الثامنة من عمرها.

تروي السيدة السبعينية: "كنتُ أعيش أسعد أيام طفولتي مع أخي التوأم منير. وكنا نستعدّ لعرس أختي الكبرى بعد أسابيع. كان اليهود قد بدأوا قصفهم في أماكن عدة، وكل يوم كنا ننتظر أن يصلنا القصف من خلف أشجار الزيتون. حتى اقترب القصف منّا بشدّة، فخفنا على جهاز أختي العروس، فجمعناه كله في حوض سباحة من الألومينيوم ودفناه في الأرض. وطلب والدي، الذي كان يعاني من مرض في الأعصاب يمنعه من الحركة، من والدتي أن تأخذني وإخوتي خارج البيت لنختبئ في الصحراء".

تعود السيدة منيرة بذاكرتها ليوم 15 مايو/ أيار 1948، إلى بيتهم في يافا الفلسطينية، لتتابع: "كانت والدتي قد أعدّت لنا طعاماً شهياً فيه أرانب ودجاج. وكنا كلما وضعنا الطعام على الطاولة لنبدأ في العشاء، يعلو صوت القصف، فنفزع ونركض ونحتمي بأمنا. ثم تركنا والدي في البيت وخرجنا إلى الصحراء".

وفي تلك الليلة، اقتحم اليهود منزل عائلة شيحا، في إطار مشروع إنشاء الدولة الإسرائيلية.

تضيف: "أشرقت الشمس. وركضت أختي الكبيرة مع أخي إلى بيتنا للاطمئنان على أبي الذي رفض أن يترك البيت". وكانوا كلما اقتربوا خطوات من البيّارة، سمعوا أصوات احتفال وصخب. ومن نافذة خلفية، شاهدوا اليهود يرقصون احتفالاً باستيلائهم على البيت "يأكلون عشاءنا وبجوارهم جثة والدي المذبوح على أيديهم. كان ذلك آخر ما شاهدناه". كانت الصدمة أكبر من استيعابهما، فعادا إلى الصحراء يهرولان "نحو والدتنا، التي استوعبت الصدمة وقرّرت على أثرها مواصلة المسير في الصحراء..".
تتابع: "لم تفارق الدموع عينيّ أمي. كلما نظرت إليها أجدها غارقة في البكاء. كنا عطاشى. مشينا أكثر من ثماني ساعات. نصعد تلة وننزل أخرى. حولنا فقط عناقيد العنب الحامض نبلّل ريقنا بها فتشقّ حلقنا. في الصحراء انضمّت إلينا عائلات كثيرة ممّن استولى اليهود على أراضيها وبيوتها. نساء متقدمات في السّن كن يمُتنَ من شدّة التعب، فيحفرون ويوارون جثثهن في التراب. وكذلك مات أطفال من شدة الحرّ والعطش والجوع".

وصلت العائلات النازحة من يافا إلى قرية صغيرة تسمى الزود "القرية كانت  خضراء وفيها بركة ماء كبيرة مثل الواحة. أول ما رأيتها أنا وأخي منير رمينا نفسينا فيها من شدة العطش. ثم طُلب منّا أن نأكل كسرات الخبز كي نتمكن من متابعة الرحلة الصعبة، المجهولة النهاية. ومن الزود إلى قرية المجدل. هناك باعت أمي وأخواتي ذهبهنّ وقرر أخي البكر أن يشتري بضاعة ويبيعها، مثلما كان يفعل والدي الذي كان تاجراً بين مصر وفلسطين".

وبالفعل سافر محمد، الشقيق البكر، إلى نابلس لمقابلة التجار الذين كان والده يتعامل معهم، كي يشتري منهم بضاعة ويبيعها. وأثناء عودته حوصر في مدينة الخليل، مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ومجموعة أخرى من كتيبة ضباط مصريين وفلسطينيين.

تقول إنها ما زالت حتى اليوم تبكي كلما شاهدت الصحراء ورمالها الصفراء، التي تعيد لذاكرتها مشاهد تلك الليلة.  

تتابع: "في المجدل لم نختبئ في الصحراء بل اختبأنا بين أشجار الزيتون عندما طال القصف الإسرائيلي القرية التي استقرت فيها العائلات لفترة قصيرة"، مضيفة: "كنا نقسم أنفسنا بين الأشجار، بحيث لا نموت جميعاً إذا ما أصابتنا قذيفة".

ثم جاء موعد الهدنة. استأجرت العائلة بيتاً في المجدل أقامت فيه لمدة ثلاثة أشهر "كانت أمامه حفرة كبيرة، سقط فيها صاروخ ولكنه لم ينفجر. كنا نخشى مجرد الاقتراب منه، لأنه كان يمثّل تهديداً لحياتنا جميعا".

بعد ذلك سافرت العائلة إلى خان يونس عند أولاد العم. تتابع: "عشنا 12 شخصاً في غرفة واحدة، وكنا شديدي القلق على أخينا الذي سافر منذ أشهر وانقطعت أخباره، فأرسلنا له رسالة عبر الراديو أخبرناه فيها أن الأسرة انتقلت إلى خان يونس". هكذا تمكن الأخ الأكبر من الاستدلال على محل إقامة أسرته الجديد.

تضيف السيدة منيرة: "سار أخي على قدميه ثلاث ليال وأربعة أيام متواصلين. وعندما وصل كانت قدماه منتفختان من السير. ولا أنسى تلك اللحظة التي دخل فيها البيت ورآنا جميعاً بخير. انحنى على الأرض وقبّلها". 

عاشت أسرة شيحا في خان يونس ستة أشهر، قبل أن يدبّر عدد من تجّار القاهرة، الذين كانوا يتعاملون مع رب الأسرة، تصاريح دخول لجميع أفرادها إلى مصر.

عن طريق القطار الذي كان يصل بين غزة والقاهرة، وصلت عائلة شيحا إلى منطقة الدمرداش في القاهرة. تتابع: "عشنا عند عمتي وأولادها. ساعد التجار أصدقاء والدي إخوتي في تدبير أعمال لهم، واشترت أختي الكبرى آلة خياطة وبدأت في التفصيل والتطريز".

التحقت الطفلة منيرة بـ"مدرسة الأميرة فريال ابنة الملك فاروق"، وهناك تعرّضت، ولم تكن قد أكملت أعوامها التسعة بعد، لموقف لا تنساه في مصر: "خلال حفلة مدرسية في القلعة، حضرها الملك فاروق، طلبت مني معلمتي أن ألقي خطاب الترحيب ثم أسلّم على الملك وأقبّل يده.

وبالفعل، قرأتُ الخطاب وكانت لغتي العربية جيدة، ولكني لم أتعرّف على شخص الملك، فسلّمتُ على الجميع فقط". فما كان من معلمتها إلا أن صفعتها على وجهها لتوبيخها على عدم تقبيل يد الملك الذي لم تكن قد رأته من قبل "انهمرت في البكاء الشديد وطلبت الرحيل، وظللت أبكي طوال اليوم في بيتنا".

مرّت الأيام والتحق زوجها بـ"منظمة التحرير الفلسطينية"، فيما انخرطت هي في العمل التطوعي.

تقول: "كنا نزور غزة كل عام. ولا أنسى تلك المرة التي اصطحبني فيها زوج أختي وأختي إلى بيّارتنا في يافا، فاسترجعت شريط الذكريات كاملاً أمام عينيّ، وتعرّفت على منزلنا بمفردي. تذكرتُ مكان البئر، وسمعت صوت ضحكات أخي. ولمحت خطواتي في الساحة. وشممت رائحة شجر البرتقال.. وبكيت". 

توفي الزوج في منتصف الثمانينات وتزوج كل أبنائها. وبقيت وحيدة في شقتها في "مصر الجديدة"، فعرضت عليها صديقات في الهيئة الإدارية التابعة لـ"اتحاد المرأة" أن تتولى الإشراف على بيت طالبات فلسطينيات في مصر، حتى لا تعيش وحدها. وما زالت فيه، بعيدة عن بيت آخر مرسوم في قلبها، حتى اليوم.