صوتُها الجميل

صوتُها الجميل

16 يوليو 2016
يوم آخر من دونها (ماريو تاما/Getty)
+ الخط -
هاتفَ أحد محال الوجبات السريعة، وردّت عليه صاحبة صوتٍ جميل. كان يريد أن يسمعه جميلاً. على الكومبيوتر الموجود أمامها، سجّلت طلباته. لم يرَ شيئاً. مجرّد صورة متخيّلة جعلته يبتسم. ثمّ ودّعته برقّة. أحسّ برقّة إلى درجة دفعته إلى الحديث عن الأمر. هل تحضرُ مع الوجبة التي طلبها؟ أم تبعثُ له بإشارة؟ لا يعرف شكلها أو اسمها ولا أي شيء. كان يريد منها تلك اللفتة الجميلة، التي تسحبه إلى القليل من الخيال.

***

لم تأتِ. ويقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش إنها لن تأتي. بعيدةٌ هي. هذه أُخرى. حتى الصوت الجميل لا ينسيه إياها، ولا جميع الأصوات الجميلة. يؤمن بالدنيا أكثر منها. العالم يمر من بينهما وحولهما. ولا تأتي. لم يفكّر يوماً أن يذهب إليها. بل فكّر. لكنّ العالم أقوى من حلمه.

***

يبتسمُ للفتاة العابرة في خياله.. لصوتِها الجميل. يختارُ لها اسماً وشكلاً. ولا تأتي. والأجمل أن تبقى حيث هي. من مكانه البعيد، سيعرف أن صوتاً جميلاً لا بد وأن يخبّئ فتاةً أجمل. هذه ليست قاعدة، بل عِبرتُه من خياله، وتلك اللفتة التي منحها له العالم في يوم مملّ جديد.

وجبة سريعة من دونها. ويوم آخر من دونها. وقد يكون عمراً. في مرةٍ أخرى، قد لا تجيب هي نفسها. لن يجرّب حظّه. حادثة من هذا النوع قد تقضي على لحظات تخيّلها. يعيش في الواقع ولا يؤمن به. يحفظه بالأرقام. كلّ ما يعرفه عنه يدعوه إلى أن يكون غيره. هو أيضاً، لن يأتي إلى الواقع.

مرة أخرى، يبتسمُ للفتاة العابرة في خياله، والبحر الذي يستوعب أحلامه، والسماء التي ترفعه إليها، والنساء اللواتي يمشين على الكورنيش البحري. أحياناً، يسمعُ نقمتهنّ على الرجال. يبتسم مجدداً ويتمنى أن تنقم عليه، فقد حرمته من ذلك أيضاً.

***

"بيننا مليون عصفور وصورة". أكثر من مليون عصفور وشجرة وأسماء وحروب وذكريات. تجمعهما حياة وموت. وبينهما، صاحبات أصوات جميلة. الخيال يحميه منها. في ما مضى، كانوا يصلون إلى قارات أخرى بحراً. لطالما قرأ هذه الكتب. وكلّما قصد البحر، رآها أمامه. وإذا ما سمع صوتاً جميلاً، رجع إلى حياته نفسها.

***

وحدها التفاصيل التي نخلقها تنسينا أخرى لم نعد نطيقها. وتصيرُ حقيقية بقدر ما نصدّقها. ولن تعذّبنا حين نصبح قادرين على تجاوزها وخلق أخرى. أمس كان صوتاً جميلاً. وغداً قد يكتفي بوجبة سريعة وقليل من البطاطس المقليّة. ليس سخيفاً ليؤمن بصوت. لكنّه ذكيّ ليبتسم بعد إغلاق الهاتف.

المساهمون