حقيقة علمية!

في وطننا العربي المصاب ببلاء التحيز الديني والمذهبي والوطني والعرقي والعشائري وغيره كثير مما يقسّم التحيز نفسه إلى تحيزات دقيقة، تختفي الحقيقة بالرغم من أنّ كلّ شخص يدّعي امتلاكه لها، فيحاول فرضها على آخرين لا ينتمون إلى تحيزه نفسه.

عندما تكون القضايا سياسية كبرى تهدد مصالح الدول الكبرى، تتدخل الأخيرة لتفرض وجهة نظر واحدة مهما لقيت من مقاومة، فتغلّب فريقاً على حساب فرق، بما يضمن حماية مصالحها. لكن، على مستوى القضايا الاجتماعية، يمكن أن تستمر الخصومات الأيديولوجية أبد الدهر من دون رادع لها، إذا لم تصطدم بمصالح الدول الكبرى وشركاتها. فهذا يكفّر ذاك، أو يترفّع عليه، أو يمنع الاختلاط معه، أو يحظر الزواج منه، أو غير ذلك من صنوف التمييز. ولعلّ الخلاف بين مذاهب المسلمين وتكفيرهم بعضهم البعض، مهما رُوّج لنماذج تسامح وتوفيق واعتدال، خير شاهد على هذه التحيزات المستدامة التي تتغذى من ذاتها ومن الطرف الآخر، في الوقت نفسه.

المشكلة الكبرى ليست في ما يعرف عنه في الواقع الاجتماعي التاريخي أنّه حقل أيديولوجي، كالدين والسياسة، بل في ما يُزعم أنّه بعيد عن ذلك الحقل كلّ البعد، معتنقاً تسمية "العلم" كمصطلح واحد له قواعده الصارمة التي لا تقبل الشكّ.

لكن، لا بدّ من أن نلاحظ مثلاً كيف يمكن اعتبار دواء ما آمناً من وجهة نظر علمية، وكيف يتحول ذاك "العلم" إلى وجهات نظر يكفّر بعضها بعضاً. فمن التبريرات أنّ هذا الدواء آمن لأنّه خضع للتجريب والملاحظة فلا احتمال لعدم أمانه بالتالي. وأنّ هذا الدواء آمن لأنّ كثيراً من المرضى جرّبوه ونفعهم فإذا أضرّهم فالمشكلة ليست في الدواء. وأنّ هذا الدواء غير آمن لأنّ كثيراً من المرضى جرّبوه، ونفعهم لكنّ واحداً منهم جرّبه ولم ينفعه. لكن، يمكن اعتبار هذا الدواء آمناً إذا صمد أمام محاولات تكذيبه، فإن اتسم بالقابلية للتكذيب لكن لم يتمكن أحد بعد من تكذيبه، فهو آمن. والأخطر أنّ هذا الدواء آمن لأنّ تجمّعاً علمياً معيّناً قال إنّه آمن وليس مضطراً لإخبارنا بإثباتات على ذلك. وبالتالي، فإنّ هذا الدواء آمن لأنّ وزارة الصحة في بلدي صنفته كذلك على أساس تصنيف وكالة عالمية أو أوروبية أو أميركية، ما يحتم منع كلّ الأدوية المنافسة له والسماح به وحده وتعميم ذلك على المستشفيات والصيدليات. بل ربما يذهب بعضهم أبعد من ذلك، في أنّ هذا الدواء آمن، ويعطي نتائج فعالة كلما اقترب المريخ من الأرض لأنّه يحتوي في تركيبته على البروكسين وهو أحد المعادن الأساسية في الكوكب الأحمر.