محاكم بريطانيا... العاطفة تقود هيئة المحلفين

محاكم بريطانيا... العاطفة تقود هيئة المحلفين

24 أكتوبر 2017
المحكمة العليا أعلى محكمة استئناف (دان كيتوود/ Getty)
+ الخط -
يعتبر البعض أنّ نظام المحاكم في بريطانيا يحتاج إلى مراجعة، خصوصاً لجهة اعتماده في الحكم على هيئة محلّفين قد يميل أفرادها إلى تجريم الأبرياء بحسب العواطف التي تحركهم خصوصاً في قضايا الاغتصاب

تتميّز محاكم بريطانيا العليا عن بقية دول أوروبا باعتماد نظام حكم هيئة المحلّفين، خصوصاً في القضايا المهمّة والخطيرة، مثل جرائم القتل والاغتصاب والتحرّش الجنسي. ترفع الجرائم الكبيرة من محكمة الصلح إلى محكمة التاج، التي تضم قاضياً وهيئة محلّفين مكوّنة من 12 شخصاً يجري اختيارهم عشوائياً من عامة الشعب، من دون الالتفات إلى مستواهم التعليمي أو عرقهم أو دينهم. يعود لهؤلاء في نهاية الأمر إصدار الحكم على المتهم بـ"مذنب" أو "غير مذنب". أمّا مهمّة القاضي فتقضي بمحاولة توجيههم وتلخيص القضية، بعد أن يدلي كلٌّ من محامي الدفاع والمدعي العام بما لديه من أدلة، وعقب الاستماع إلى المتهم والضحية والشهود. كذلك، يعود إلى القاضي تقرير نوع العقوبة ومدّتها في حال صدور الحكم بـ"مذنب" من قبل هيئة المحلّفين.

تعتبر المحكمة العليا أعلى محكمة استئناف في جميع الحالات تقريباً في إنكلترا وويلز، وهي أعلى محكمة استئناف أيضاً في قضايا نقل السلطة، التي كان يشغلها مجلس الملكة الخاص.

خطورة الجرائم
تنقسم الجرائم التي يحاكم بشأنها في محكمة التاج إلى ثلاث في خطورتها: الفئة الأولى تشمل الخيانة والقتل، وعادة ما يسمعها قاضي المحكمة العليا. أمّا الفئة الثانية فتضمّ جرائم الاغتصاب، وعادة ما يسمعها قاضي الدائرة تحت سلطة القاضي الذي يترأس الجلسة. وتضمّ الفئة الثالثة جميع الجرائم الأخرى مثل الخطف والسطو والأذى الجسدي.

تبدأ جميع القضايا في محكمة الصلح، ويرسل المتهم إلى محكمة التاج حين تدخل جريمته ضمن الجرائم التي تعتبر خطيرة وفق القانون البريطاني. كذلك، تتعامل محكمة التاج مع دعاوى الاستئناف ضد إدانة أو تسجيل عقوبة تتعلّق بالجرائم الجنائية وسبق صدور الحكم في شأنها في محكمة الصلح، ومنها الحكم بحرمان شخص من القيادة لانعدام أهليته أو صدور أوامر ضد سلوكه الاجتماعي. ويحق لمحكمة التاج قبول أو رفض طلب الاستئناف وتغيير العقوبة أو جزء منها. عادة ما يستمع إلى الاستئناف قاضي دائرة مع ما لا يزيد عن أربعة قضاة، وغالباً ما يكونان اثنين فقط.



هناك تأكيدات مشتركة حول فوائد المحاكمة من قبل هيئة المحلّفين، ومنها أنّها توفّر فرصاً للمواطنين للتحقّق من القوانين الجنائية عبر تطبيقها. وفي هذا الصدد، ادّعى ألكسيس دي توكفيل، وهو دبلوماسي فرنسي، أنّ محاكمات هيئة المحلّفين تثقّف المواطنين حول الحكم الذاتي. كما يعتقد كثيرون أنّ هيئة المحلّفين تؤدي إلى المزيد من التعاطف والعدل أثناء جلسة الاستماع، كونها لا تنتمي إلى الحكومة.

إيجابيات وسلبيات
هذه النقطة الأخيرة بقيت موضع نزاع. ففي حالات الاتهامات التي تحرّك العواطف بشدّة، مثل اغتصاب الأطفال، قد تميل هيئة المحلّفين إلى إدانة المتّهم بالاعتماد على مشاعر أعضائها الشخصية، بعيداً عن مبدأ الحكم على أساس انعدام أيّ شك معقول.

وفي هذا الإطار، يقول ميشال عبد المسيح، المحامي الحاصل على لقب مستشار الملكة، لـ"العربي الجديد"، إنّ الفكرة الأساسية لوجود هيئة المحلّفين، هي أنّها حق أساسي اكتسبه الشعب وقد بذلت محاولات كثيرة لإزالته. لكنّ هذه الهيئة توفّر أكبر قدر من الحماية للفرد ضد الدولة. وتقليدياً كان المشتبه به يحاكم من قبل زملائه أو الناس في منطقته حيث وقعت الجريمة. يضيف أنّ قوّة المحلفين تكمن في استحالة انحياز 12 شخصاً ضد أقلية عرقية أو جنس واحد. ويتابع أنّه ربح الدفاع في جرائم اغتصاب عدة كانت هيئات محلّفيها من النساء فقط.

في المقابل، تؤكّد لوريللا، اسم مستعار (45 عاماً)، أنّ هيئة المحلّفين غير مؤهّلة لإصدار حكم كونها تميل إلى قرار القاضي وتتحكم بها العواطف، أكثر من الالتزام بالمهنية والأدلة. تقول لـ"العربي الجديد"، إنّ قريبتها أرادت الانتقام من شاب بسبب إعجابها الشديد به، منذ المراهقة، بعد فشلها في معظم علاقاتها العاطفية: "لفّقت له تهمة التحرّش بها جنسياً حين كانت طفلة". بدا الأمر في البداية تافهاً، ولم يتوقّع أحد أن يأخذ القضاء كلامها على محمل الجد في ظلّ غياب أي دليل يدينه. لكنّ هيئة المحلّفين غالباً ما تتعاطف مع الضحية المزعومة في مثل هذه الحالات، خصوصاً إن كان معظم أفرادها من النساء البيض والمتّهم من أصول شرق أوسطية. بالفعل، دان المحلّفون الرجل الذي أثبت سجّله الجنائي خلوّه من أي تهمة طوال فترة حياته في بريطانيا على مدى نحو ثلاثين عاماً. أرسله القضاء إلى السجن، معتمداً على ذكريات كاذبة تعود لطفلة، من دون الالتفات إلى الأدلة التي قدّمها والتي تثبت بالبرهان القاطع انعدام إمكانية تواجده معها وحده خلال فترة التهمة المزعومة. لم يحقّق القضاء في تاريخ الفتاة أو مدى صحتها العقلية والنفسية، للتأكّد من مزاعمها، بل فضّل حرمان أب من أطفاله وعائلته على أن يحرج امرأة كاذبة بالبحث في تاريخها ومصداقيتها.

تردف لوريللا أنّ "أيّ امرأة تريد الانتقام من رجل تستطيع في هذه البلاد أن توجّه له اتهامات كاذبة تتعلّق بالتحرّش الجنسي بها، لتدخله في دوامة من التوتّر والقلق طوال فترة التحقيق التي قد تصل إلى عام، وتوصله إلى قاعة المحكمة، حيث يوضع خلف الزجاج كونه مجرماً، وغالباً ما يدخل السجن، حتى في غياب أي دليل يدينه، بل وفق ما تراه هيئة المحلّفين، التي تتكوّن من أشخاص لا علاقة لهم بالقانون أو القضاء"، كما تقول.



الأبيض والآخرون

ثمّة مسألة أخرى في محاكمات هيئة المحلّفين، تتمثّل في احتمال انحيازها وفق اعتبارات عرقية. أثبتت هذه المسألة في الدراسة التي ترأسها النائب ديفيد لامي، التي نشرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وبيّنت أنّه في عام 1991 ساعدت الإحصاءات على ملاحظة التمييز العرقي في نظام العدالة الجنائية، عند معالجة قضايا يكون المشتبه فيها من أصول عرقية مختلفة. تشير الدراسة إلى أنّ هذه الإحصاءات لم تتحسّن مع الوقت، فإن كنت من أصل أفريقي أو آسيوي أو شرق أوسطي أو أي إثنيات أخرى، تكون أكثر عرضة للاحتجاز الاحتياطي بنسبة 16 في المائة أكثر ممّا لو كنت أبيض البشرة. ومن المحتمل أن تحصل على حكم بالسجن لمدّة أطول مقارنة مع نظرائك البيض، وعلى الجرائم ذاتها أو جرائم مماثلة.

من أصعب الجرائم التي تغيب عنها الأدلّة، هي تلك المعروفة باسم الجرائم التاريخية التي غالباً ما تعتمد على الذاكرة، في ظلّ غياب قانون التقادم على الجرائم الخطيرة في بريطانيا، على عكس الدول الأوروبية الأخرى. فمهما طال الزمن يلاحق القضاء البريطاني المشتبه به ويحاكمه حتى لو كان طاعناً في السن، ولو كانت الجريمة المزعومة ارتكبت قبل خمسين عاماً.



تنتشر بكثرة خلال السنوات الأخيرة في بريطانيا، قضايا التحرّش الجنسي التاريخية، ويعود ذلك إلى جيمي سافيل، الشخصية التلفزيونية البريطانية الشهيرة، الذي طاولته الادعاءات بعد عام تقريباً من وفاته عام 2012، ووجّهت إليه اتهامات اعتداءات جنسية على نطاق واسع ضد مراهقين ومراهقات.

محاكمة سافيل شجّعت الكثير من ضحايا التحرّش الجنسي على التوجّه إلى الشرطة والتبليغ عنها، وقدّمت في المقابل إلى الانتهازيين فرصة للانتقام من أيّ شخص، أو كسب تعويضات مالية على حساب الزج بأبرياء في السجون. لا تحتاج ضحية التحرّش الجنسي، في القضاء البريطاني، إلى إثبات الجريمة بالأدلة، بل تكفي كلمتها لتنقل إنساناً إلى حياة وراء القضبان. ويعتمد القضاء في محاكمة المتّهم على ذكرياتها حتى لو كانت طفلة لم تتجاوز السادسة من العمر، ولو بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على الجريمة المزعومة.

في هذا الإطار، تحدّث إلى "العربي الجديد" الدكتور كيفن فيلستيد، مدير "الجمعية البريطانية للذاكرة الخطأ" العاملة في هذه القضايا، الذي يقول إنّ معظم الفتيات اللواتي يتوجّهن إلى القضاء باتهامات مماثلة هنّ من الفاشلات في علاقاتهن العاطفية في الثلاثينيات من العمر من الطبقة المتوسطة والمثقفات. يضيف أنّه تعاون مع الدكتورة جوليا شو، عالمة النفس الجنائية، في جامعة لندن ساوث بانك، على فحص 2500 حالة، لاكتشاف كيفية خلق الذكريات الكاذبة والطريقة التي تتطوّر بها بمرور الوقت. ويلفت إلى أنّ هذه الحالات تفاقمت عقب قضية سافيل التي يدعوها فيلستيد بـ"تأثير ما بعد سافيل". ويوضح أنّ نظام العدالة الجنائية ظلم الضحايا الحقيقيين في الماضي، وسخر منهم، لكنّه ذهب في الاتجاه المعاكس منذ قضية سافيل. لذلك، من المهم البحث في الذاكرة وتمييزها عن الذاكرة الكاذبة، لأن التمييز بينهما يؤدي إلى الحكم بإنصاف على المتّهم الذي قد يكون بريئاً.