الفلسطيني كشبيه لكورونا: عن مخيلة الفاشيين التي لا تنضب

الفلسطيني كشبيه لكورونا: عن مخيلة الفاشيين التي لا تنضب

14 ابريل 2020
من تظاهرات 17 تشرين الأول (أنور عمرو/فرانس برس)
+ الخط -
هذا العام تحديداً، كان يمكن لذكرى الحرب الأهلية اللبنانية (13 إبريل/نيسان 1975)، أن تمرّ بهدوء. لا بالونات بيضاء ولا حمام طائر في الهواء تعبيراً عن السلام، ولا زرع أشجار وورود على خطوط التماس السابقة. هدوء فقط، وتباعد اجتماعي. وحدها صحيفة "الجمهورية" أخرجت من أدراجها خطاباً عنصرياً، نفضت عنه الغبار، وحوّلته إلى رسم كاريكاتوري: 13 نيسان 1975 مع صورة لمن يفترض أنه فدائي فلسطيني (بالكوفية الحمراء)، ثمّ أعطى أنطوان غانم رسمته لمسة آنية: 13 نيسان 2020 مع رسمة لفيروس كورونا.

بخفة تقارب السفاهة فتكاد لا تُصدّق، قارن غانم بين لاجئ فلسطيني وفيروس كورونا. فعلها "الفنان" مرة أخرى. هو الذي سبق أن كشف للجمهور عن جزء من "موهبته"، في كاريكاتور رسمه على قناة OTV في سبتمبر/أيلول الماضي، حمّل فيه أطفال اللاجئين والعمال الأجانب مسؤولية ضعف القدرة الاستيعابية للمدارس الرسمية في لبنان.

ورغم إعادة غانم في رسمه هذا، صياغة رواية اليمين المسيحي الذي حمّل الفلسطينيين مسؤولية الحرب وما تلاها، فإن الكاريكاتور بدا مفاجئاً نظراً لعنصريته الفجّة والوقحة بشكل لا يحتمل. حتى إذا ما قسناها بالعنصرية اليومية التي تنتشر في الإعلام اللبناني، فتطل تارة على شكل مشهد ساخر من العاملات المنزليات، او تحقيق "استقصائي" يحمّل السوريين مسوؤلية ارتفاع نسبة الجريمة، يبقى هذا الكاريكاتور متفوقاً بقذارته وتحريضه، فيكاد يخيّل للقارئ أنه مزحة ثقيلة، فمن يمكن أن يقيم تشبيهاً كهذا إلا المضطربون والفاشيون؟ 

منذ عام 1990، اتفقت الرواية الرسمية على ضبابية التسميات عندما استعادت سيرة الحرب الأهلية، حتى أنها شطبت الفصل المخصص لتلك الحقبة من كتب التاريخ المدرسية. ومع اغتيال رفيق الحريري ثمّ خروج الجيش السوري (2005)، بدا أن هذه الضبابية بدأت تنقشع، فعادت إلينا روايات وصور وشهادات، ومعها أسماء زعماء مليشيات ومقاتلين، وضحايا وجزّارين. في تلك السنوات التي تلت عام 2005، كان جيل آخر هو الذي يصوغ الخطاب. جيل ولد في سنوات الحرب الأخيرة، أو قضى طفولته خلالها، لكنه لم يعش تفاصيلها بوعي كامل. هذه المسافة النفسية سمحت بحديث أكثر هدوءاً، وبدأت تدريجياً بإزاحة الروايات المعاد تدويرها عن المسيحيين والمسلمين، المسيحيين والفلسطينيين، السوريين... لتحل مكانها روايات أكثر عقلانية وواقعية.

مرّت السنوات، وتحوّلت الحرب الأهلية إلى ذكرى باهتة، تحديداً مع حجم الانهيارات التي كان لبنان يعيشها: اغتيالات، وحروب أهلية مصغّرة بمتقاتلين مختلفين، وأزمة اقتصادية خانقة، ثمّ الثورات العربية وتداعياتها على لبنان. لكن ثابتاً واحداً لم يتغيّر ولم يبهت، تلك العنصرية بخطابها واستعلائها وفوقيتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين. وإن كانت المجاهرة بهذا الخطاب حافظت على حيائها لسنوات، فإنّ الأعوام الخمسة الأخيرة التي تخللتها المصالحة المسيحية الكبرى بين سمير جعجع وميشال عون (قبل أن تنهار مجدداً)، ثمّ وصول عون إلى رئاسة الجمهورية، أعطت هامشاً واسعاً ليتصدر هذا الخطاب نقاشات كثيرة، وصلت إلى قمتها عندما قرر وزير العمل  في الحكومة السابقة (2019) كميل أبو سليمان اشتراط حيازة الفلسطينيين إجازة عمل لممارسة أعمالهم في لبنان. ترافق ذلك القرار مع موجة تحريض مرعبة ضد الفلسطينيين، واستعادة لخطاب الحرب الأهلية نفسه، لكن هذه المرة من دون استحياء.

نعود إلى كاريكاتور أنطوان غانم في صحيفة "الجمهورية". الحق يقال إن مشكلته إلى جانب ثقل دمه، هي أنه عاجز عن الخروج من تلك الحقبة، في تعامله مع المتغيرات السياسية المحلية والإقليمية. فيعيد تدوير الخطاب العنصري نفسه، ذلك الخطاب الوحيد الذي لم يبهت منذ عام 1975، فتوسّع كثيراً، وحيكت حوله خرافات وأساطير، جعلت من الفلسطيني شماعة للفشل اللبناني المتلاحق في بناء دولة حقيقية. وهذه المرة تحديداً انغسمت هذه العنصرية أكثر في المستنقع، فقذفت في وجوهنا سفالة على شكل رسم كاريكاتوري. لكن ماذا نعلم نحن؟ فمخيلة الفاشيين قد تترجم أحياناً في رسومات كاريكاتورية، وتجد منصة إعلامية تنشرها وتتباهى بها. وهذا أكثر رعباً من كل أوبئة العالم.

دلالات

المساهمون