Duran Duran... رقصة الموت

Duran Duran... رقصة الموت

18 نوفمبر 2023
(كاتيا أورغين / Getty)
+ الخط -

من بين الموضوعات الأكثر تداولاً ضمن الأوساط الفكرية والفنية في الوقت الراهن، الموت. كثيراً ما تتردد مثلاً عبارة Memento Mori في النقاشات الفلسفية، أو الشروحات التي تتقدّم أو تتذيّل مقطوعة موسيقية ما، نصباً مفاهيمياً من أنصاب الفن المفاهيمي المعاصر، أو مُحاضرة عن علم نفس مساعدة الذات. أما العبارة، فتعني باللغة اللاتينيّة "تذكّر موتك"، في إشارة إلى تقليد ثقافي قديم، يحتفي بالموت ويدعو إلى التفكّر في حتميّته واستعبارها من خلال الآداب والفنون.

ثمّ أيضاً Danse Macabre. باللاتينية، تعني "رقصة الموت"، وهي العبارة التي تدلّ على طقوس قروسطية مسيحية احتفت بالموت، بتجسيده مسرحياً وموسيقياً. اسمٌ اختارته Duran Duran فرقة الروك البديل، أو الإندي Indie عنواناً لألبومها الأخير، الذي صدر نهاية الشهر الفائت.

قد شاع الموت كموضوعة بين أوساط الهارد روك والهيفي ميتال منذ ظهور تلك الأجناس الفنية نهاية سبعينيات القرن الماضي، حين تواءم مع أجواء الظُلمة والرعب التي تماهت معها فرقٌ تحت-أرضية (Underground) مؤسّسة كـ Black Sabbath وJudas Priest. كلتاهما بالمناسبة بريطانيّتان تشكّلتا في مدينة بيرمنغهام، مسقط رأس "دوران دوران". مع ذلك، تبقى التسمية لافتة، ولا سيما أن ألبوم الفرقة يحتفي بإرثها رجعياً، من خلال إحياء أغانٍ خالدة، لطالما ألهمت أعضاءها، وشكّلت محطّات هامة على خط مسيرتهم معاً.

من بين تلك الأغاني Spellbound لفرقة Siouxsie and The Banshees التي تعود لسنة 1981، وتعد واحداً من النماذج الأولية لما سيُعرف لاحقاً بالهيفي ميتال، وذلك من خلال إيقاع ثنائي هدّار على عدّة طبول الدرامز، أشبه بطرْق الحداد، مترافق مع ضربٍ حيوي نشط على أوتار الغيتار الكهربائي ذي الصوت المُكبّر والمشوّش. علاوة على النصوص عدمية الطابع، والمغالية في الرمزية، والمُقارِبة حتى لموضوعات مشرقة، بما فيها الولادة، من زاوية سوداوية قاتمة.

أتى تناول أغنية Siouxsie and The Banshees أميناً، إذ بقي مخلصاً للأصل، لكن لم تغب عنه الأصالة النابعة من اللغة الموسيقية الخاصة بـ"دوران دوران"، وذلك من خلال تراكُب طبقات موسيقية متمايزة، تبقى متجانسة، بينما تتجنب في ذات الوقت طمس الهوية الأصلية للأغنية. من تلك الطبقات ما هو معاصر، كأشكال المؤثرات من أزيز سمعي (Drone) مدوزن هارمونياً ومصنع رقمياً بواسطة تطبيقات الكومبيوتر، ومنها ما يعود بالأذن إلى الثمانينيات، عقد الفرق ومهدها، من خلال رشقات الكيبورد الإلكتروني الحاد والسنثسايزر.

أغنية أخرى اشتهرت أوائل الثمانينيات، أعادت "دوران دوران" صياغتها من خلال التراك العاشر من الألبوم، ألا وهي Super Freak (المسخ الخارق) لنجم موسيقى الديسكو حينها ريك جيمس (Rick James)، بذات الأسلوب الجامع للأصالة والأمانة، وإن بتصرّف أوسع هذه المرة، وتغييب واعٍ لمعالم الأصل كالكورس والتراتيب النغمية (Riffs).

بهذا، جعلت من صياغتها حوضاً توضع بداخله الأغنية الأصلية. دلالياً، أُشير على التصرّف بإضافة صفة الوحيد (Lonely) إلى العنوان الجديد، كأني بالفرقة تريد لصياغتها أن تزاوج ما بين سوداوية الهيفي ميتال وترفيهية الديسكو. أما أسلوبياً، فتجلّى التصرّف عبر اتباع لون الفانك (Funk) الهجين ما بين الروك والبوب.

الفرفة الأيقونية Talking Heads تمثلّت من خلال أغنيتها Psycho Killer التي يعود إصدارها إلى سنة 1977. لأجلها، دُعيت إلى المشاركة بالتسجيل فيكتوريا دي أنجليس، عازفة غيتار الباص لفرقة الروك البديل المعاصرة #Maneskin.

في نسختها الخاصة المُدرجة ما قبل الأخيرة ضمن الألبوم الجديد، تتناول "دوران دوران" الأغنية الكلاسيكية من بوابة العوالم الصوتية الرقمية المُميزة للبرامج الحاسوبية الموسيقية الحديثة. بذلك، تضعها في تباين خلّاق مع الألوان الصوتية الكهربائية التي ميّزت حقبة السبعينيات. إلا أن "دوران دوران"، تُجيد الإمساك بروح الفانك الروك، فلا تضيع معالم الأصل نهائياً.

قُبيل الكورس، يتحرر الغناء جزئياً من اللبوس اللحني، ليقترب من الهيب هوب. عند القنطرة، يُستدعى الأورغن الكهربائي، من ورائه يُرسَم مشهدٌ سمعي من أطياف لونية هارمونية داكنة، تُكسب الأغنية عُمقاً غائراً، وصدى يحمل صوت الغناء، ليتردد ما بين الواجهة والخلفية.

بالنسبة لفرقة هارد روك عريقة مثل "دوران دوران"، قادرة على جمع سلس للمستويات الفكرية بالترفيهية، فإن طرح موضوعة الموت مجازياً من خلال العنوان قد تكون له دلالات عدة، منها السطحي ومنها العميق. للوهلة الأولى، لا يتجاوز الموت كونه حيلة تسويقية لتزامن إطلاق الألبوم مع موسم الاحتفال بعيد الهالووين الأميركي، الذي يحتفي تقليدياً بالرعب والشعوذة والهياكل العظمية ومصاصي الدماء، وتشيع خلاله دمى الأطفال والأزياء التنكرية والمسرحيات التمثيلية الباعثة على الإثارة والرعب، والتي يعود عديدٌ منها إلى أساطير وروايات العصور الأوروبية الوسطى مثل "رقصة الموت".

وقد لا تكون صدفة، عبر اتصال عميق بالوعي الإنساني الجمعي من خلال نماذجه السيكولوجية الأولية (Archetypes) أن يتزامن كل من عيد الهالويين، وبموجبه الإصدار الجديد مع حلول فصل الخريف، حين تبدأ أوراق الأشجار بالاصفرار ومن ثم التساقط، إيذاناً بدخول الطبيعة خلال الشتاء دورة موتٍ، تنتهي بإعادة بعث للحياة أول ربيعٍ من كل عام جديد.
 
كما قد يكون لموضوعة الموت بعدٌ أكثر اتصالاً بواقع الصناعة الموسيقية، وهي في منقلب حقبوي، جعل من فرقة مثل "دوران دوران" تشعر بقدريّة تموضعها بين قرنين، وبالتالي تُبدي حساسية برزخية تجاه ألوانٍ فنية أخذت تشيخ، كالهارد روك والفانك والهيفي ميتال، وألوانٍ فنية عصرية تُمثّل الجيل الجديد، تشكّلُ أبجدية لغته الموسيقية من مؤثرات مُصنّعة رقميّاً وتراكيب صوتية بات يُنتجها اللاب توب ولوح الآي باد.

ولعل للموت والتفكّر فيه، والاستلهام منه على صعُدٍ فنية وأدبية وفكرية، دلالات تتجاوز قرارات فنية خاصة بفرقة موسيقية. تتعلق بحال الثقافة الغربية والمضيق التاريخي المُأزوم الذي تمرّ عبره، عند حافة الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. حين تؤول الكهولة الصفة الديموغرافية للشعوب الغربية. فيما تلوح نُذرُ الموت بعودة الأوبئة والحروب، على الرغم من الخروقات التكنولوجية العديدة الواعدة.

المساهمون