يان يوهانسون... الكنيسة ما زالت تنتظر سيارةً تقودها موسيقى الجاز

يان يوهانسون... الكنيسة ما زالت تنتظر سيارةً تقودها موسيقى الجاز

07 نوفمبر 2021
ارتكز في أعماله على أغانٍ مألوفة للمستمع الاسكندنافي (لينارت ستين/Getty)
+ الخط -

لطالما اقترن الجاز، في الولادة والنشأة، بالولايات المتحدة الأميركية؛ إذ مثّل وما زال، الشكل الفنّي الأميركي الشمالي الأكثر تبلوراً وأصالة. ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار، كلّ تلك المشارب الثقافية الأصلية، كتلك التي تنبع من القارة الأفريقية بالأساس، ثم أميركا الجنوبية، بحكم الجوار المشترك، ناهيك عن العامل الأوروبي البارز عبر معظم الآلات المستخدمة، والكامن من خلال النظريات الموسيقية المتبعة.

من جهة أخرى، لا يغيب عن الأذن حضور الجاز لدى كلّ الشعوب في قارات الأرض الخمس. سواءً بالتذوق والاستماع، أو بالتأليف والأداء. قد يعزو المرء ذلك إلى المظلة الجيوسياسية الأميركية المُخيّمة على العالم، منذ منتصف القرن العشرين.

إلا أن للجاز أيضاً خصائص تُمكّنه من الاختراق والتمدد خارج حدود بلد المنشأ؛ كالنبض الإيقاعي الحيوي ذي الأثر الفطري على كل الناس، والسلالم الخماسية ذات السمة الحيادية من ناحية الهوية النغمية. ومن ثم الارتجال، الذي يفسح المجال أمام التلاقح بين موسيقات الشعوب، من دون الوقوع في شرك الاستيلاء الثقافي.

هكذا، برزت أسماء موسيقية لامعة في عالم الجاز، لم تكن كلها أميركية. ولم تنتج كلها جازاً أميركياً صرفاً، بل تعاملت مع هذا الجنس الموسيقي كـ "بوتقة"، بعضها سطع نجمه في العالم أجمع، بما فيه الداخل الموسيقي الأميركي، كالمؤلف وعازف الأورغ النمساوي جو زافينول Joe Zawinul وفريقه "ويذر ريبورت" Weather Report الذي حقق نجاحاً كبيراً في سبعينيات القرن الماضي.

ثمة أيضاً عازف البيانو الأذري واكيف مصطفى زاده 1940-1979 Vagif Mustafazadeh، الذي حاكى البُعيدات الصوتية الشرقية على آلة البيانو الغربية. أما في العالم الناطق بالعربية، فلأسماء مثل ربيع أبو خليل من لبنان، ويحيى خليل من مصر، وأنور إبراهيم من تونس، حصة تمثيلية في كثير من مهرجانات الجاز الدولية.

خصائص الجاز ذاتها، من مرونة قالبيّة وسيولة أسلوبية، تسمح باستحضار نموذج البوتقة ضمن أيّة ثقافة حول العالم، كما لو كان ذلك هو الغرض الأول منه، جعلت من الدول الاسكندنافية بدورها مركزاً مُشعّاً للجاز المعاصر. عازف الساكسوفون الخارق للعادة، النرويجي يان غابارك  Jan Garbarek، إضافة إلى شهرته الدولية، كان قد ساهم بتقديم نخبة من العازفين الإسكندنافيين الأفذاذ إلى العالم. وذلك من خلال ما عُرف بـ يان غاربارك غروب. فمن خلال علامة تسجيلات "إي سي إم" ECM، أطلق الأخير لوناً أثيرياً من الجاز الشمالي (في إشارة إلى شمال القارة الأوروبية والكرة الأرضية)، بات يُعرف بـ صوت إي سي إم. صوتٌ صار تقليعة، وأخذ يُلهم مشاهير الجاز المزيج (الفيوجن) في أميركا وحول العالم.

اسكندنافياً أيضاً، في السويد، على وجه الخصوص، يعدّ الثلاثي الذي أسسه عازف البيانو إسبيورن سفينسون Esbjörn Svensson مثالاً ناجحاً على جازٍ إسكندنافي حقق رواجاً عالمياً. وساهم في حضور السويد على لوائح الإصدارات الأكثر مبيعاً في دنيا هذا النوع من الموسيقى.

إلا أن الأقدار، وقبل صعود سفينسون درجات العالمية، قد شاءت بقسوتها الشبيهة ببرد الشمال القارس وسمائه الرمادية الداكنة، أن يبقى موسيقيٌّ سويدي مُبدع ومؤثّر، غائباً بصورة شبه كلية عن الذاكرة الموسيقية في أوروبا وحول العالم؛ إذ طالما مثّل سعي عُشّاق الجاز بغية اقتناء تسجيلٍ له على أسطوانة، شريط أو سي دي، وذلك قبل مشاع اليوتيوب، ومنصات التحميل الصوتي كسبوتيفاي وآي تيون، أشبه بمهمة مستحيلة. إنه عازف البيانو السويدي يان يوهانسون 1931-1968 Jan Johansson، الذي يصادف التاسع من الشهر الجاري ذكرى رحيله.

قصر أمد حياة الموسيقي، المؤلف وعازف البيانو، قد يكون أحد أهم الأسباب وراء غيابه عن آذان العالم. ففي طريق الذهاب لإحياء إحدى الأمسيات الموسيقية، في كنيسة، جنوبي السويد، تعرض يوهانسون إلى حادث سير قضى بسببه، وهو لم يزل وقتها في سن السابعة والثلاثين. ناهيك أنّ الجاز بحدّ ذاته، أيّما كان وأينما كان، لونٌ خاص بنادٍ صغيرٍ نسبياً من المستمعين. تضيق الحلقة الجماهيرية أكثر فأكثر، إزاء الفنانين الذين نشطوا بشكل أساسي ضمن مجالات جيوثقافية متطرفة، كشمال القارة الأوروبية.

تحمل شخصية يوهانسون الموسيقية الملامح العامة لجاز الشمال الاسكندنافي؛ إذ تتجلى جميعاً في مجموعة من التسجيلات بعنوان "أغان شعبية" Volksvisor، تشتمل في الواقع على إصدارين منفصلين. الإصداران هما ألبومٌ اسمه "جاز باللغة السويدية" Jazz på Swenka، وآخر تحت اسم "جاز في روسيا" Jazz på Ryska.

أول السمات الاسكندنافية العامة لديه، انطلاقاً من عنواني الألبومين، هي الاجتهاد في توظيف الجاز من أجل دراسة ونشر التراث الغنائي الشعبي. بالنسبة إلى شعوبٍ تعيش في بقعة متنوعة بتضاريسها ومتلونة بموروثها السابق للمسيحية، تحظى الأغنية الاسكندنافية بمنزلة شبه قدسية، وتعد مُمثّلاً للهوية الجمعية. الأمر الذي يُحتّم على كل موسيقي "نوردي" (شمالي) أن يبقى يدور في مدارها.

فالأغنية الشعبية الاسكندنافية، بإيقاعها الثنائي أو الثلاثي البسيط، وبتركيبها النغمي المطواع، ستنسجم بيسر وسهولة مع النواظم السلمية للموسيقى الكلاسيكية الغربية، التي تمخّضت عنها أهم آلات الجاز، كالبيانو والغيتار، وأسرة أبواق النحاس المتعددة. انسجامٌ يصل حدّ التماهي ضمن البيئة الموسيقية الغربية للجاز بالطابع وبالتصميم، لجهة اعتمادها قواعد الهرمنة العمودية، التي تُشكل بدورها حوامل إيقاعية للجمل اللحنية.

فالأغاني التي يستعرض يوهانسون ألحانها في مستهل كل قطعة مسجلة من الألبوم، ليقوم بتزويدها بالسلاسل الهارمونية ومن ثم توزيعها على العازفين، لتُتداول بين أعضاء الفرقة، إنما تُسمع بصورة تلقائية، كما لو كانت واحدة من الألحان الشائعة والمعروفة لجمهور المستمعين، من محبي هذا اللون الموسيقي عبر العالم. 

أما ثاني تلك السمات، التي تُسمع بوضوح لافت لدى يوهانسون، تكمن في الاهتمام المُسهب ببناء الجملة، خلال أداء اللحن الأساسي، وعدم الاكتفاء باستعماله كمدخل للارتجال أو الإضافات الهارمونية. وتلك سمة تعبيرية تُعد علامة فارقة للموسيقى الكلاسيكية الغربية. الأمر الذي يدل على ركون موسيقيي الشمال الاسكندنافي على إرث الجوار الأوروبي والخلفية الكلاسيكية في مقاربة الجاز كوسيلة تعبير أدائي، انطلاقاً من منظور البحث عن شهادة فردية من خلال أداء المقطوعة الموسيقية.

تماماً، كما يفعل عازف بيانو مثلاً، حين يؤدي إحدى سوناتات بيتهوفن، التي مرّ على أدائها عدد لا يُحصى من العازفين. مقاربة لا تقتصر فقط على تخطيط البنية الجُمَلية، عبر مواضع الشدة والخفة الصوتية، أو ما يُعرف تقنياً بـ "الديناميك". وإنما البحث الحثيث عن لون صوتي خاص بكل نغمة، وعند كل نقلة سُلمية، وما ينتج عنها من أثر شعوري فوري لدى المتلقي. الأمر الذي يستدعي الإنصات بقلب مُفكّر، وعقل شاعِر، عند الاستمتاع بالاستماع إلى عزف يان يوهانسون على البيانو.

المساهمون