ياسر جرادي: الطريق هو الطريقة

ياسر جرادي: الطريق هو الطريقة

24 ابريل 2022
الالتزام الفني بالنسبة لي هو التزام الفنان تجاه ذاته أولاً (من الفنان)
+ الخط -

يخوض الفنان التونسي ياسر جرادي في حقول عدّة؛ السينما، والمسرح، والتشكيل. في عام 2010، قرّر أن يولي الموسيقى والغناء اهتماماً أكبر. هكذا، عرفه الجمهور عبر أغانٍ عديدة، مثل "شبيك نسيتيني" و"نرجعلك ديما" و"ما تخافيش" و"ستنيتك". التقته "العربي الجديد" في هذا الحوار. 


تنقلت بين فنون عدة؛ النحت، والسينما، والمسرح، والخط العربي، والموسيقى. عن ماذا تبحث؟ وما الذي يحركك في كل تلك الفنون المتنوعة والمتمايزة؟
- في الحقيقة، لا أبحث عن شيء بعينه. بالنسبة لي "الطريق هو الطريقة"، كما يقول الشاعر محمود درويش، فكلما كان الطريق متنوعاً متجدداً، كانت المتعة أكبر. أبحث عن التنوع، عن المتعة، عن أحاسيس جديدة، حتى أشعر بأني حي وحتى لا أقع في براثن الرتابة.

في النهاية، الفنون كلها تتلاقى، فمثلما يقول ليوناردو دافنشي: "العمل الفني لا يجب أن يقوم على الطبيعة، بل على القوانين الطبيعية". جميع هذه التنويعات الفنية تخضع لنفس القوانين: التركيب، والتخطيط، والتوازن. تجدها في الرسم، كما في النحت والموسيقى وغير ذلك. ومن خلال إنتاجي الأعمال الفنية، أحاول أن أتقاسم المتعة مع الجمهور، فدور الفنان أن يُشعر الآخرين بجمال الخلق، بعظمة الخالق، ليس مطلوباً احتكار تلك الأحاسيس، بل عليه أن يتقاسمها مع الآخرين. وحين يفعل ذلك، يصبح لها معنى ومذاق آخر، تستطيع أن تقول إنه حينها تكتمل دائرة المتعة.


الفنون، عادةً، جامحة، ولا ترحب بأي قيود. فلماذا تُعرّف نفسك كـ "فنّان ملتزم"؟
- يجب أن نتفق أولاً على مفهوم الالتزام، لأن كثيرين يخلطون بين معنى الالتزام والسياسة. بالنسبة لي، الالتزام هو التزام الفنان تجاه نفسه، أي أنه لا ينتج فناً لأجل الآخرين، بل يكون نابعاً من ذاته، حتى يؤمن ويلتزم به. الأغنية، سواء كانت في حب امرأة أو في حب الوطن، أو عن أي شيء آخر، هي ملتزمة إذا كان الفنان صادقاً مع نفسه.

الالتزام بالنسبة لي هو التزام الفنان تجاه ذاته أولاً، بغضّ النظر عما يقدمه من موضوعات، بمعنى آخر لا يخضع لا لسوق ولا لذوق عام ولا تقتصر رغبته على الانتشار والشهرة. رغبته الأولى والأخيرة هي أن يكون أميناً وصادقاً في التعبير عما يخالجه من أحاسيس.


• هل اختلف استقبال الناس لنوعية الأغاني التي تقدمها قبل الثورة وبعدها؟
- أعتقد أن الفرق ليس في استقبال الأغاني، بل في انتشارها، لأنه قبل الثورة لم يكن لدينا (نحن المغنين الملتزمين) إمكانية الوصول إلى الإذاعات أو التلفزيون، بينما أمسى الأمر ممكناً بعد الثورة، هذا هو الفارق الأبرز. أما بالنسبة للاستقبال؛ فأثق بأن الناس تعاطوا مع اللون الغنائي الملتزم وأحبّوه قبل الثورة.

لكن، ربما، لم يكن لديهم ما يكفي من الجرأة كي ينشروه مثلاً على صفحات "فيسبوك". كذلك، لم يملك مقدّمو البرامج الإذاعية والتلفزيونية الشجاعة لاستضافة فنانين يقدمون لوناً غنائياً بعيداً عن السائد. لهذا أتصور أن الفرق هو في الانتشار، وليس في الاستقبال.


• هل تقصد أن الأغاني الملتزمة أمست أكثر انتشاراً بعد الثورة، أكثر من انتشارها قبل الثورة؟
- بالضبط هذا ما أقصده، أصبح لدينا عدد من المهرجانات تحمل اسم الفن الملتزم، مثل "المهرجان العربي للأغنية الملتزمة"، أقيمت منه ثلاث دورات حتى اليوم، وهو فعالية كبيرة، استضاف العديد من الأسماء اللامعة على مستوى العالم العربي، مثل أميمة خليل. أصبح الفن الملتزم يملك كذلك منصاته الإذاعية والتلفازية، وعلى الإنترنت. ومن بين الظواهر الجديدة، أيضاً، والمحببة إليّ، نوادي أحباء الشيخ إمام. تأسس أولها في تونس العاصمة، وأمسى لدينا اليوم ستة أو سبعة نوادٍ في أنحاء تونس، وهي مبادرات يجتمع فيها الشباب ويغنّون معاً أغاني الشيخ إمام.


• على ذكر الشيخ الإمام، هل هناك إمكانية لأن يمرّ الفن التونسي الملتزم بذات التجربة؟ بمعنى أن يذيع خارج تونس، أو هل قد تعيق اللهجة شيئاً كهذا؟
- أتصور أن الجودة وليس اللهجة هي التي تقرّر، لأنه حين يكون العمل جيداً، بإمكانه أن يمس الجماهير، حتى ولو لم تفهم كلمات الأغنية بشكل كامل. لدي تجربة يمكن أن أدرجها تحت اسم "الصوفية المعاصرة"، تتمثل في عرض "ياسر محبة"، أتيحت لي فرصة تقديمه في الأردن، وكنت خائفاً من مسألة اللهجة، لكني فوجئت بتفاعل الجمهور أكثر مما توقعت. لهذا، أعتقد أن الجودة هي التي تقرر. إذا كان العمل جيداً، فهو بالضرورة سيمسّ الناس. واليوم لم تعد هناك مشكلة في فهم اللهجات، خاصة مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي؛ فنحن في تونس مثلاً بإمكاننا أن نفهم أغلبية اللهجات العربية.


• كيف ترى ما يحدث في الساحة الغنائية والفنية بصفة عامة في تونس اليوم؟
- الساحة الفنية في تونس تتعافى. أقصد أنها تزداد تنوعاً، لأن التنوع لم يكن مسموحاً به، وأمسى متاحاً بعد الثورة. وهذا أمر مهم. التنوع من أهم العوامل المؤثرة في الفن، يمنحه فرصة التطور وإمكانية أن يصير أكثر جودة. لهذا، أتخيل أن المستقبل يحمل الأفضل للساحة الفنية التونسية بالتأكيد. وربما نقترب من تنوع وجودة المعروض في الساحة الفنية المصرية، التي أعتبرها مدرسة في جميع الألوان الموسيقية.


• لديك تجارب مختلفة تشي بنزوع إلى التجريب، والانتقال بصفة دائمة إلى مساحات جديدة، سواء في الفن، أو حتى خارجه، مثل رحلتك بالدراجة عبر تونس، لمسافة 1600 كيلومتر. هل هناك مشاريع جديدة ومغايرة، تودّ تقديمها في المستقبل القريب؟
- أنهيت تصوير شريط بين الروائي والوثائقي، من إنتاج الجزيرة، يحكي عن هذه الجولة تحت عنوان "نرجعلك ديما"، وسيكون متاحاً للجمهور في أغسطس/ آب المقبل على الأغلب. في نفس الوقت، أنا بصدد إقامة عرض شبه مسرحي، شبه سينمائي، شبه موسيقي، يحمل رؤيتي ويحكي عن هذه التجربة، سمّيته "الطريق هو الطريقة"، أروي فيه حكايات عمن قابلتهم في الرحلة، ومشاعر جديدة شعرت بها، لأني لأول مرة في حياتي شعرت بنوع من التواصل مع بقية الكائنات. شعرت بأني أخو العصفور، أخو الشجرة، أخو الريح والشمس.

وفي هذا العرض، سأحكي عن كل ذلك، سأحكي أيضاً عن الله، لأن من حقي كفنان أن أحكي عنه بمعزل عن الدين. أحكي ما شهدته وما أحسسته من خلال تواصلي مع الله أثناء رحلتي، كذلك أنا بصدد إعداد جولة أخرى بالدراجة، لكن هذه المرة ستكون خارج تونس.


• هل يمكن أن تطلعنا أكثر على الرحلة الجديدة؟
- ستكون إلى فلسطين، ووراءها قصة، مفادها أن والدي كان من المشاركين في حرب 48، إذ سافر وعدد من أصدقائه، سيراً على الأقدام، وأحياناً في حافلة إذا صادفتهم واحدة، وكان دائماً يحدّثني عن فلسطين، وعن المغامرة والحرب، لهذا أودّ أن أسافر في ذات الطريق الذي سافر فيه والدي، ولو أسعدني الحظ ودخلت من معبر رفح، سأقيم عرضاً في أي مخيم، في الشارع، في أي مكان، المهم أن أغني في فلسطين.

المساهمون