ويجز الغلابة... كبش الفداء راقصاً فوق المدينة الخراب

ويجز الغلابة... كبش الفداء راقصاً فوق المدينة الخراب

15 أكتوبر 2022
تظهر المدينة من خلفه متهالكة وباهتة (محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -

إن انتابتنا بعض الشكوك حول قوة مواقع التواصل الاجتماعي وقدرتها على صناعة الرأي وتكريس المحتوى، فمن المرجح أن تريند ويجز الغلابة الذي اجتاح هذه المنصات في الآونة الأخيرة، سيعيد إلينا اليقين أن "حكم المشاهدات" أقوى بكثير مما كنا نتوقعه. بدأ التريند بظهور الشاب المصري هيثم أحمد، الملقب بويجز الغلابة، من خلال فيديو قصير لا تتجاوز مدته الدقيقة، كان قد بثه على منصة تيك توك أولاً، ثم انتشر في باقي المنصات الأخرى، مثل فيسبوك ويوتيوب، بسرعة قياسية.

في الفيديو، يظهر هيثم أحمد، واقفًا على أحد سطوح الأبنية القديمة، وهو "يؤدّي" أغنية مايكل جاكسون الشهيرة Smooth Criminal، بكلمات غير مفهومة، أوضحها عبارة "أنتش وأجري" التي باتت شعارًا لصيحة ويجز الغلابة الجديدة. تداول العديد من الفنانين العرب الفيديو، من بينهم هندي صبري وإياد نصار وهدى المفتي، ما زاد من شعبيته ورواجه. وتولت إحدى الشركات، تحت اسم Trend Egypt VIP Production، إنتاج الأغنية بتوزيع "موسيقي" جديد، نظمه "مونتي". وصنعت فرقة واما نسختها الخاصة من الأغنية أيضاً. وكذلك سارعت وسائل الإعلام المحلية للقاء بالشاب المصري، والاستماع إلى قصة "كفاحه" منذ نشأته إلى حين صدور الفيديو الذي "غيّر حياته إلى الأبد". وأشارت أنباء عدة إلى تعاقد شركة فودافون معه، لاختيار أغنيته "أنتش وأجري" ككول تون لصالح الشركة، وهو خبر نفته شركة الاتصالات المصرية في مرحلة لاحقة.

@hossammohamed1734 اسمع#ويجز ♬ انتش واجري - تيك توك

ليست ظاهرة ويجز الغلابة هي الأولى في هذا السياق، بل لعلنا ما زلنا نتذكر ويجز الغلابة الأول الذي ظهر عام 2021، وغيره من صانعي المحتوى الصاعدين الذين تتصدر فيديوهاتهم "فيسبوك" و"تيك توك"، من دون أي محتوى فعلي أو موهبة إبداعية بارزة، وإنما على هيئة استعراض مفرغ من المعنى، يصل إلى حد التهريج، والتعامل مع الذات كسلعة تروج لنفسها، آملة بالصمود بعد انتهاء الدقائق الـ 15 من الشهرة خاصتها، وبدء أخرى جديدة.

لم يقدم ويجز الغلابة أي مضمون جدي أو ترفيهي. ومع ذلك، سارع عديدون على مواقع التواصل الاجتماعي إلى تبني تلك "الموهبة الناشئة"، عبر الدعم الإلكتروني ومشاركة الفيديو على صفحاتهم وحساباتهم الرسمية، من دون أن يقدّم أي منهم سبباً موضوعياً لإعجابهم بما قدمه. فلم يشر أحدهم إلى براعته في الغناء أو التقليد، أو إلى سلاسة حركاته الراقصة، بل بدا أن معظم الدعم الصادر كان بنية التعاطف مع الصورة الواقعية والمؤلمة التي يعكسها الفيديو القصير.

يحاول ويجز الغلابة ثرثرة بضع كلمات لتحل مكان اللغة الإنكليزية التي لا يجيدها، مرتدياً نظارة شمسية، إطارها يتجاوز حدود وجهه النحيل، وخلفه تمتد المدينة العشوائية بألوان رمادية باهتة، ناقراً أسفل قدميه بلاطات تتنوع في ألوانها ونقشاتها، لتوحي أنها جُمعت على دفعات متباعدة لإكمال مهمة البناء المكلفة.

ومع أن الغالبية العظمى تعاطفت مع ما قدمه هيثم أحمد، إلا أن المقاربة ذاتها تسببت في جدل واسع بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين رأى بعضهم أن التعاطف الذي لقيه الفيديو، يشكل إهانة غير مباشرة إلى الشاب وغيره ممن يعيشون ظروفًا اقتصادية واجتماعية مماثلة، وذلك عبر إضفاء الطابع الرومانسي (Romanticizing) على واقع الفقر و"الغلابة"، وتكريس الأسطورة الليبرالية حول ريادة الأعمال وإنشاء المشاريع المزدهرة من الصفر. تمنح تلك الفيديوهات، ومَن خلفها من صنّاع الأمل الزائف، فرصة وهمية لمنتجيها (الفيديوهات)، واعدةً إياهم بوهم الوصول والثراء السريعين "من دون تعب". وتعلي من قيمة أي جهد، مهما كان تافهاً ومتواضعاً، غير آبهة بمصير الشخص عقب انتهاء الصيحة.

يعيدنا رد الفعل على تريند ويجز الغلابة إلى نقاش أوسع حول مفهوم التعاطف مع الآخرين. فعلى الرغم من التغييرات الكثيرة التي طاولت معناه عبر الأزمنة الحديثة، يبقى مؤكدًا أن التعاطف شعور إنساني مشروع، وأحد أبسط ردود الفعل البشرية تجاه المِحَن والمآسي التي يعاني منها الآخرون. إلا أنه ليس من المعروف بعد إن كان التعاطف، ومرادفته الشفقة، هو قوة توحد الناس ضد المآسي، أم إنه وسيلة تبعدنا أكثر عن أولئك الذين نعتبرهم "آخرين"، خاصة ما لم يكن التعاطف مقرونًا بالفعل، وهو ما تسميه أدبيات العلاج النفسي بالتعاطف غير المنتج. يكبح التعاطف غير المنتج الأسئلة الملحة عما يجب فعله لمحاربة الأوضاع الاقتصادية السيئة ومساعدة أولئك الأقل حظاً، ويستبدلها بنوع من العزاء النفسي، يقدمه أصحاب الامتياز لأنفسهم، بغية محاربة ما يُعرف اليوم بـ"ذنب الامتياز"، عبر التبني المزعوم لموضوعات متواضعة، والدفاع المجاني عنها. كما يتسبب التعاطف غير المنتج بتدهور الصحة النفسية لمتلقيه، ويخلق في كثير من الأحيان ازدراءً من الذات وتقزيماً لها.

لتلك الأسباب وأخرى كثيرة غيرها، ناهض عديد من الفلاسفة وعلماء النفس، عبر التاريخ، التعاطف بكل أشكاله، واعتبروه واحداً من أخبث المشاعر الإنسانية وأكثرها ضرراًً. ومن بينهم الفيلسوف الشهير نيتشه الذي رفض إعطاء الشفقة وتلقيها على حد سواء. بالنسبة لنيتشه، فإن الشفقة، بمعزل عن دوافعها، دينية أم أخلاقية كانت، هي في أحسن أحوالها تدخل مبتذل في حياة الآخرين، فضلاً عن أنها "تسيء إلى الشعور بالعار"، وتجعل من هم يعانون تحت رحمة من تسببوا في معاناتهم من جديد.

بالفعل، زادت مقابلات ويجز الغلابة عقب انتشار الفيديو من حدة الموقف، مكرسة صورته ككبش فداء ضحت به وسائل الإعلام لزيادة مشاهداتها، من دون أي اهتمام فعلي بمعاناة الشاب أو ما قد يحل به في مرحلة لاحقة، إذ يظهر الشاب المصري متحدثًا عن "إنجازه" الأخير بكلمات بعضها مرتجل وبعضها الآخر يبدو منمقاً ومعداً مسبقاً. ويستفيض في شرح أحداث حميمية وخاصة، كتفاصيل دخوله إلى الحمام، لإيضاح مدى فاقته وحاجته، معترفاً مراراً أنه "رجل بسيط"، يعجز عن امتلاك آلة موسيقية، ما دفعه إلى الاستعاضة عنها بالإيقاع اليدوي والفموي السهل، وينصاع لتعليمات مقدمي أحد البرامج المصرية الذي قاطع أداءه الحي، إن صحت تسميته كذلك، مرات عدة لتوجيه الأسئلة إليه، أو ليمنع استخدامه لكلمتي "أنتش وأجري". وهاتان الكلمتان الوحيدتان "المفهومتان" عبر الأغنية. وقد مُنع من استخدامهما لتشجيعهما، بزعم المذيع، على السرقة والنهب، طالباً منه الاكتفاء بباقي الثرثرات الخالية من أي معنى. ت

عكس تلك الحادثة التوجه العام للسلطات ووسائل الإعلام التي تروج لها. ففي حين تسمح تلك السلطات لمواطنيها باستخدام أي وسيلة كانت للنجاة، وتمنحهم حق التصرف بأنفسهم والتضحية بها أو إيذائها أو بيعها كسلعة، إلا أنها تشترط ألا تحضر في خلفية ذلك المشهد الهزلي أو الكارثي، حتى تعود وتختبئ مجددًا تحت عباءة "التصرفات الفردية" التي لا تمثلها. أما ماذا سيحل بويجز الغلابة، وغيره ممن ينتظرون فرصة مشابهة في الظلال، فهو أمر لا يشغل بال الكثيرين.

المساهمون