"نَيَاد": القصّة أهمّ وتفاصيلها طاغية كشخصية صاحبتها

"نَيَاد": القصّة أهمّ وتفاصيلها طاغية كشخصية صاحبتها

19 يناير 2024
آنيت بنينغ وجودي فوستر في "نَيَاد": حكاية واقعية أهمّ من السينما (الملف الصحافي)
+ الخط -

القصة الحقيقية أهمّ بكثيرٍ من فيلمٍ روائي طويل، يُراد له أنْ يكون نوعاً من تكريمٍ لسبّاحةٍ أميركية، ستكون الأولى في تحقيق اختبارٍ مُرْهِق، جسدياً وروحياً ومعنوياً، والاختبار منبثقٌ أساساً من حلمٍ يُراودها في 44 عاماً. فالفيلم يسرد لحظاتٍ "أساسية" (إذْ يُفترض باللحظات المختارة أنْ تكون أساسية، فعلياً) من سيرة السبّاحة، في تلك اللحظة التي تُضفي عليها شهرةً أكبر، والسرد مشغولٌ بأسلوبٍ بصريّ عاديّ للغاية، إلى لمحاتٍ متخيّلة، تمنحه شيئاً من فعلٍ سينمائي، سيكون مبتوراً، لأنّ النَفَس التوثيقي خاضعٌ للمنجز الكلاسيكيّ التقليدي القديم للفيلم التسجيلي، رغم أنّ بعضَ فعلٍ سينمائي يُخفِّف، ولو قليلاً، طغيان مفردات الريبورتاج التلفزيوني على الصنيع برمّته.

"نَيَاد" (2023)، لإليزابيت تشاي فِسارْهالي وجيمي تشين (تشين مستشكف يعمل في "ناشيونال جيوغرافيك")، يروي فترةً واحدة من السيرتين الحياتية والمهنية لديانا نَيَاد (1949)، السبّاحة الأميركية، التي ستكون أول من يسبح مسافة 161 كلم، تفصل كوبا عن فلوريدا ("كي وست" تحديداً)، وفي بعض تلك المسافة قناديل بحرٍ سامّة، ومياه موبوءة، وأسماك قرش. فترة تشهد تدريبات مكثّفة، ومحاولات فاشلة، وتوتّرات قاسية، وصدامات عدّة، قبل تمكّنها، في 2 سبتمبر/أيلول 2013، من تحقيق ما تصبو إليه منذ بلوغها 20 عاماً. أي بعد 11 يوماً فقط على احتفالها بعيد ميلادها الـ64 (مواليد 22 أغسطس/آب 1949).

والفيلم، إذْ يصبو إلى تسجيل بعض السابق على يوم النجاح في تحقيق الحلم وصولاً إلى اليوم نفسه، يجعلُ بناءَه الفني وثائقياً مُقدَّماً بتمثيلٍ، يُفترض به أنْ يجعله فيلماً روائياً. لكنّ كلّ شيءٍ يُحيل إلى ذاك النَفَس التوثيقي، رغم التمثيل (الأميركيتان آنيت بنينغ وجودي فوستر والويلزي ريس آيفانس)، والسرد الدرامي (سيناريو الأميركية جوليا كوكس، استناداً إلى كتاب "العثور على حلّ" لنَيَاد نفسها، الصادر عام 2015)، والتصوير (التشيلي كلاوديو ميراندا) والتوليف (الأميركي كريستوفر تَلِفْسِن). كلّ شيءٍ يوحي أنّ الروائيّ يختفي لحساب تفاصيل توثيقية بحتة، والتمثيل، رغم حِرفية مختارين ومختارات للأدوار الأولى، غير متمكّن من انتشال المُنجز البصريّ من تسجيليته التقليدية، المُطعّمة بمتخيّل أعجز من أنْ يمنح "نَيَاد" جماليته السينمائية.

مشاركة جودي فوستر وآنيت بنينغ، تحديداً، دافعٌ إلى المُشاهدة (نتفليكس). هذا يحصل أحياناً عدّة. ممثلون وممثلات، كمخرجين ومخرجات (وفي المهنة، هناك تقنيون/تقنيات وفنيون/فنيات أكبر من أن يكونوا مجرّد مهنيّين، فيُحرّضون على مشاهدة أعمالٍ لهم/لهنّ) يكونون أوّل سببٍ لاختيار فيلمٍ، والمُشاهدة وحدها كفيلةٌ بتبيان تفاصيله الفنية والدرامية والجمالية والتقنية، ولكشف مدى التفاعل بين المُشاهِد/المُشاهِدة والصنيع الفني.

لفوستر حضورٌ في "نَيَاد" أهمّ من ذاك الذي تصنعه بنينغ، رغم أنّ بنينغ تؤدّي الدور الأول/الشخصية الأساسية (ديانا نَيَاد)، وفوستر صديقتها بوني ستول، التي تُصبح، في تلك الفترة (التدريبات واليوم المنشود)، مدرّبتها والمشرفة على تمارينها وتجربتها وحياتها اليومية.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

كصديقتها ومدرّبتها، تتبوّأ فوستر المرتبة الأولى في الفيلم، بفضل أدائها وفطنتها وحيويتها التمثيلية، فبراعتها (كعادتها) عاملٌ وحيد لمعاينة كيف تكون بوني ستول أقرب الناس إلى ديانا نَيَاد، وأصدقهم معها، وأكثرهم دفاعاً عنها، إلى حدّ أنّها، في حالات عدّة، تجهد في حمايتها من نفسها. هذا نوعٌ من تمرين على تمثيلٍ مُثير للانتباه والمتابعة.

في هذا كلّه، تُقدِّم فوستر أداءً محترفاً، يرتكز على مهنيّةٍ واضحة، وإنْ يبقى الأداء في إطار تلك المهنيّة المطلوبة، لا أكثر. أمّا آنيت بنينغ، فرغم ما لديها من مسارٍ مهنيّ، يتراوح بين براعة أداء واحتراف مهنة وعاديّة تمثيل أحياناً، غير مُقدّمة جديداً في أداءٍ يبدو تقليداً، أو محاولة تقليد للشخصية الأساسية، بما تملكه ديانا نَيَاد من قوّة حضور، ورغبة فاقعة في التسلّط، وقدرة هائلة على تحدّي المخاطر والعقبات، وتمسّك مذهل بما تريد فعله. بنينغ غير متحرّرة من طغيان نَيَاد، ما ينعكس سلباً على أداءٍ، تجهد في جعله تمثيلاً، من دون قدرتها على التحرّر لا من الشخصية الأصلية، ولا من سماتها ومزاياها وتسلّطها.

أمّا المثلية الجنسية، المُعلَنة في حياتها، فتعيشها نَيَاد من دون تباهٍ بخطابية جوفاء حولها وعنها، والفيلم غير مكترثٍ بهذا الجانب، فالتزامه واضحٌ: متابعة المسار كلّه الذي ينتهي بتحقيق مبتغاه في السباحة بين بلدين، لديهما تاريخٌ من النزاعات والمواجهات والتوتر. هذا النزاع غير حاضر في تلك الفصول المرويّة في "نَيَاد"، المعنيّة تحديداً بالهوس الذاتي بضرورة تحقيق ذاك الحلم، الممتدّ على 44 عاماً. بهذا، يلتزم المخرجان إليزابيت تشاي فِسارْهالي وجيمي تشين بما يُحدّدانه مسبقاً، رغم تلميحات إلى مسائل قديمة وشخصية، مطلوبة درامياً.

لكنْ، أيُمكن لسبّاحة تبلغ 64 عاماً، حينها، أنْ تسبح كلّ تلك المسافة؟ الأميركي بنجامان لِفين (طبيب قلب مختصّ بشؤون الرياضة) يقول، في حوار مع كريستين ديلاّموري، منشور في الموقع الإلكتروني لمجلة "ناشيونال جيوغرافيك"، في 9 يونيو/حزيران 2023، إنّ لها "حالة بدنية غير عادية"، وإنّه غير ضروريّ أنْ تمتلك "قدرات هائلة"، بل "أنْ تقدر على التحمّل"، فالأمر كلّه متعلّق بأنْ تكون هي "فعّالة للغاية وثابتة، بحيث لا يرتفع معدّل ضربات القلب".

هذا يحصل. "نَيَاد" يلتقط هذا في لحظاتٍ عدّة، لكونه أمراً طبيعياً، يُضاف إليه "سينمائياً" لقطات متخيّلة عن كوابيس ومخاوف تنتابها في السبّاحة، مصنوعة (اللقطات) بمهنيّة.

المساهمون