نيكي دي سانت فال في المغرب: الحلم في آلة

نيكي دي سانت فال في المغرب: الحلم في آلة

09 فبراير 2022
تحمل منحوتاتها شكل أجسادٍ ثائرةٍ ومُحتجّة داخل الفضاء العام (فاضل سنّا/فرانس برس)
+ الخط -

بذائقة جماليّة مُندفعة صوب التجريب البصري، أقام قبل أيامٍ متحف "محمّد السادس للفن الحديث والمعاصر" في الرباط، في باحته الخارجية، منحوتة "آلة الحلم"، للفنّانة الفرنسيّة الأميركيّة نيكي دي سانت فال (1930 - 2002).

لهذه المنحوتة قوة صادمة؛ إذْ إنّ الزائر لها لا يعثر على فهم دقيق لمعالمها الجماليّة، لكنّ جرأة اللون، تجعل الرائي مشدوهاً أمام تناغمها وقُدرتها على اكتساح باحة المتحف. إنّها تُجمّل كلّ شيء أمامها، بل إنّها تقف صارخة وصامدة في وجه الناس، لتُذكّرهم بنضالات المرأة وصمودها، وبوصفها جسداً وروحاً ينبثق منهما كلّ شيء حيّ في الوجود.
تُعدّ الفنّانة والنحّاتة نيكي دي سانت فال من روّاد الفنّ المعاصر في العالم. وإنْ كانت قد بدأت علاقتها بالفنّ متأخّرة خلال ستينيات القرن الـ20، فقد استطاعت في حيّز زمنيّ قصير، اجتراح أفقٍ بصريّ وثوريّ جديدٍ لسيرتها الفنّية، في وقتٍ كان الكبار يغزون العالم بلوحاتهم وجدارياتهم ومنحوتاتهم.
لكنّها، مع ذلك، عملت على تكريس اسمها بين كبار النحّاتين داخل فرنسا وخارجها. ذلك أنّ بعض نقّاد الفنّ وجدوا في تجربتها الجماليّة المُبكّرة ما يستحقّ التأمّل والتفكير في المسارات التي تمُرّ منها عملية الاشتغال. إذْ تبدو منحوتاتها الكبيرة وكأنّها هَجينة أحياناً، وخارجة من جسدها ومطبوعة دوماً ببعدٍ ثوريّ، تُحاول من خلاله نيكي دي سانت فال تكسير المفاهيم الجماليّة المُسبقة التي كوّناها عن الفنون البصريّة.
لم يعُد الفنّ في نظرها محكوماً بهاجس التمثيل الجمالي القديم عند كل من كانت وهيغل، على خلفية أنّ الجمال لا يكمُن في حد ذاته، وإنّما في العين التي تراه. من ثمّ، تظلّ اشتغالاتها الفنّية محكومة بما يشهده الواقع من تحوّلاتٍ سياسيّة وتصدّعاتٍ اجتماعية. لذلك، تُطالعنا منحوتات "نانا" التي اشتهرت بها في فرنسا وأميركا وألمانيا وإيطاليا، بوصفها امتداداً عميقاً للفنّ المعاصر وتجلّياته الفكريّة، بعد أنْ غدا النحت المعاصر يُعيد بناء نفسه من جديدٍ، وذلك من خلال نفي الذاكرة وتقلّباتها وأعطابها والتاريخ بكافّة مُنزلقاته وميثولوجياته، مُحاولاً التركيز هذه المرّة على الجسد الإنساني. وهي استعادة جماليّة بدت في صيغتها، وكأنّها تُحاكي عصر النهضة الأوروبية، والرجوع إلى التراثين الروماني والإغريقي من خلال الإنسان، باعتباره مركز الكون. كل هذا في وقتٍ بدا فيه النحت قد ابتعد أكثر عن الإنسان وانشغاله بالنفس التجريدي المحض. لذلك بدت منحوتات الفنّانة نيكي دي سانت فال كأنها تسبح عكس التيار، وتضرب بعمق في صلب حداثة النحت المعاصر، متناسية الموروث الفنّي الفرنسيّ، بل وتغريبه وجعله مجرّد مرجع بصريّ في تاريخ النحت.

إنّ نحت الجسد الأنثوي بصرياً، وجعله مشروعاً فنياً، جعل بعض المجلّات الفنّية تنهال عليها نقداً وتصف منحوتاتها بأبشع الصفات. إلّا أنّ ذلك لم يحدّ من عزيمة فنّانة وُلدت في فرنسا وتشرّبت الألم والقهر منذ صغرها، قبل أنْ تعمل على توليف هذا الألم كطاقةٍ فنّية لنحت تجربتها الجماليّة. ما جعلها تُطارد النساء وترسم ملامح أجسادهن بشكلٍ عار وأكثر تحرّراً من الأنماط البصريّة القائمة، مُستخدمة في منحوتاتها "القبيح" كمفهومٍ جماليّ للدلالة على الأوضاع المزرية التي كانت تعيشها المرأة في ذلك الإبان.

هكذا، جاءت منحوتاتها فوضويّة وصارخة في وجه السُلطة الذكورية، على شكل أجسادٍ ثائرةٍ ومُحتجّة داخل الفضاء العمومي. لكنْ بقدر ما اشتهرت منحوتاتها في فرنسا، وجدت نيكي صعوبة بالغة في الاعتراف بها داخل الوسط الفنّي. في وقتٍ ظلّ فيه النحت مُحاكياً للطبيعة وخاضعاً لمفاهيم التمثّل والخلود والبقاء، مُقارنة بخصوصية النحت المعاصر وتعلّقه بصرياً بالعابر والزائل واللامتناهي واللامكتمل، كما يتبدّى في سيرة نيكي الجماليّة.

المساهمون