ميشال غوندري (2/ 2): لا أستطيع الدفاع عن عملي باعتباره سينما

ميشال غوندري (2/ 2): لا أستطيع الدفاع عن عملي باعتباره سينما

27 أكتوبر 2023
ميشال غوندري: تنطوي كلمة سينما على ما لا أريد ممارسته (رومّيل ديمانو/Getty)
+ الخط -

(*) الشيء نفسه بالنسبة إلى مشهد ورقة الشجرة مع الثقب الذي ننظر منه لرؤية الأشياء بشكل أوضح.

واضح أنّ في ذلك قاعدة عمل العدسة، أو الغرفة المظلمة. في التصوير، صنعت ثقباً أكبر في الورقة. لكنْ، في الحياة، هذه ثقوب أصغر حجماً تُنشئها الديدان، وتخلق تغييراً واضحاً في وضوح الرؤية. بما أنّ خالتي تعاني قصوراً في النظر، قلتُ لها: "إذا ضعتِ في الغابة يوماً ما، التقطي ورقة شجرة مثقوبة، وستتمكنين من رؤية إلى أين أنت ذاهبة من خلالها". لا أحد غيرها وافق على المحاولة. كانت معي أوراق كثيرة في جيبي، وفي كلّ منها ثقب واحد على الأقل. اقترحتها على الجميع، لكنّهم ظنّوا أنّها مزحة. خالتي تعرفني جيداً منذ صغري، لذا، كانت تثق بي وتعطف عليّ. لا أعلم بعد ذلك، ربما لم تقل الحقيقة عندما صرخت: "أوه نعم. هذا أفضل". أم أنّها قالتها لتُطمئنني كطفلٍ. حقيقةً، إنّها حيلة ناجحة.

 

(*) هل كان للعلاقة بين هذه المواقف وإحالتها على السينما دورٌ في قرار الاحتفاظ بها في الفيلم؟

لم ألتزم هذه المقاربة. لكنْ، بما أنّي اكتفيت بحكي ما لديّ من ذكريات، بَرَز هذا الجانب أكثر. أستخدم نادراً كلمة سينما، لأنّها تنطوي على تفكّرٍ لا أريد ممارسته. أترك القيام بذلك للصحافيين. أفضّل أنْ أفكّر في آلة تسجيل الصُور، وما يمكنني فعله بها. لا أتحدّث عن السينما كما لو كانت فنّاً. إنّها فنّ بالتأكيد، لأنّنا نخلق بفضلها شيئاً غير موجود، يعكس من نحن. لذلك، تنتمي إلى عائلة الفنون. لكنّي لا أفكّر بذلك. في الواقع، أفكّر فيه أحياناً، لكنْ ليس كثيراً، لشعوري أنّي لا أستطيع الدفاع عن عملي باعتباره سينما.

 

(*) أعتقد أنّ "كتاب الحلول" فيلم سطو، لكنْ بالمقلوب. أي أنّنا نبدأ بعملية السرقة، ثم ننتقل إلى دراستها والتحضير لها. هذا عكس ما يحدث في فيلم سطو كلاسيكي.

آه، نعم. هذا صحيح. إنّها صورة جيدة. سأستخدمها في المقابلات المقبلة.

 

(*) هذا جميل، لأنّه يعكس نوعاً من الهوس الحاضر في أفلامك، أو الرغبة في البدء من النهاية.

(تردّد) لا أعرف إنْ كان الأمر يتعلّق بالنّهاية أم البداية. لكنْ، أقول لنفسي إنّ في بداية أفلامي تكون هناك دائماً صدمة، وإنّ ما نلاحظه بعد ذلك تداعيات الصدمة. ربّما من غير المناسب أنْ أتحدّث عن هذا هنا، لأنّي على دراية بالزلزال والضحايا (زلزال الحوز الذي ضرب المغرب في 8 سبتمبر/أيلول 2023 ـ المحرّر). لكنْ، مثلاً، أنجزتُ فيلماً في حافلة بعنوان "النحن والأنا". الصدمة التي يبدأ بها عندما يستقلّ التلاميذ الحافلة، وتكون هناك ضجّة وشجارات بينهم. مع تقدّم الفيلم، يخرج بعضهم منها، فتهدأ الأمور، وتبقى ثنائيات تواجه بعضها البعض، ثم نفهم ما يحدث. هذا يُشبه ما قُلتَه عن فيلم السطو. كحال "سايكو" (1960، لألفرد هيتشكوك ـ المحرّر)، عندما تُرتكب جريمة قتل في البداية، ثم لا تقع جرائم قتل أخرى. نُصدَم بشدّة من الجريمة الأولى، إلى درجة أننا في كلّ مرة نقول: "مهلاً، ستكون هناك جريمة قتل أخرى، ستكون هناك جريمة أخرى"، لكنّها لا تحدث.

صحيحٌ أنّ أفلامي، عامة، مُشيّدة في الاتّجاه المغاير.

 

(*) يعتمد الفيلم، بشكل كبير، على شخصية مارك، ما يُشكّل مجازفة في الكتابة. لكن اضطلاع بيار نيني بالدور رائعٌ. كيف اخترته؟

إنه أحد أفضل الممثلين في فرنسا. نشأ بيننا نوع من علاقة، لأنّه اختارني أباً روحياً في حفل تتويج قبل 10 أعوام. لذا، عندما أردت أنْ أضمّه إلى الفيلم، ابتززته قليلاً: "أنت ابني الروحي، لا تستطيع أنْ ترفض". كانت لديه رغبة في ذلك أيضاً. إنّه مختلف، لأنّ مظهره لا يشبه أحداً. يمكن الخلط بطريقة ما بين الممثّلين الآخرين، لكن ليس هو. إنّه مغاير حقّاً. يؤدّي شخصيات ليست بالضرورة محبوبة، لكنّه يؤدّيها بكل جوارحه. هذا يعني أنّه لا يحاول دفعنا إلى التعاطف معها. صحيحٌ أنّ الفيلم يركّز عليه كثيراً، لأنّ القصة عبارة عن رواية لما يدور في ذهني، لكنّ الشخصيات الأخرى مهمّة جداً: فرانسواز لوبران في دور الخالة، وبلانش غاردان وفرانكي والاش كذلك. هنّ اللواتي جعلن شخصية مارك مقبولة، لأنّهن طيّبات معه رغم عدوانيّته.

عندما كنت أكتب الفيلم، قلتُ لنفسي إنّي لا أريد التخفيف من الجوانب السلبية لمارك خاصة. بيد أنّي خمّنت: لكنّنا سنكرهه. ثم أدركت أنّ الطريقة التي تنظر بها النساء إليه قادرة، وحدها، على جعلنا نحبّه.

 

 

(*) عادة، في الأفلام التي تدور حول مخرج، يكون لدينا انطباع بأنّ الاهتمام ينحصر في أفعاله ودوافعه فقط، وأنّ المهن الأخرى في السينما تكتفي بالدوران في فلكه. لكنّنا هنا نشعر أن للشخصيات الثانوية حضوراً حقيقياً، ودوافع مهمّة.

إنّه يفعل أشياء كثيرة، لكنّه يفرّ في كلّ مرة. لذا، يتعيّن على بقية الفريق البقاء، ومحاولة تحريك السفينة. هذا ما حدث حقّاً. لم أرغب في مشاهدة المونتاج. كان لديّ خوف غير منطقي من اكتشافه. كان عليّ الركض في الاتجاه الآخر. لهذا مررت بكلّ هذه التجارب، التي كانت أعذاراً لعدم مشاهدة المونتاج. لم يكن لديهم خيار سوى أنْ يفعلوا بأنفسهم كلّ شيء.

 

(*) نتيجة ذلك، هناك مشهد متكرّر يعتذر فيه المخرج لأفراد الطاقم، الواحد تلو الآخر، لكنْ بطريقة مختلفة في كلّ مرة.

هناك دونيز (اسم خالة المخرج في الفيلم، التي تؤدّيها لوبران ـ المحرّر)، التي تُصرّ عليه للذهاب والاعتذار. تبدّل مزاجه يجعله غاضباً فينفجر، وعندما يعود إلى رشده، يشعر بالذنب ويعتذر.

 

(*) هل كانت هذه الحالة المزاجية القصوى التي عشتها، خاصة بتصوير "زبد الأيّام"، أم أنّك واجهتها أثناء تصوير أفلام أخرى؟

لا. كان الأمر خاصاً بـ"زبد الأيّام"، لأنّي كما أوضحت (تردّد)، لا أعرف إذا كان بوسعي التحدّث صراحة عن الاضطرابات العقلية في بلدك.

 

(*) نعم، صحيح أنّ الأمر لا يزال "تابو" هنا أكثر منه في فرنسا، لكنْ يمكننا التحدّث عنه طبعاً.

حسناً. لا أزال أعاني مشكلةً طبية أو سريرية، تلمّ بي منذ كنتُ صغيراً، ولاحقاً عندما أصبحت بالغاً. كنت أحسّ بنوبات عصبية. لم يصل ذلك إلى درجة الجنون أو الفصام، بل انزعاج واضطراب في المزاج. في تلك الفترة، وصل الأمر إلى أبعاد جعلتني أفعل ما نراه في الفيلم. بعد ذلك، شعرت باكتئاب شديد، فزرت طبيباً ليساعدني على استعادة توازني. هذا ليس شيئاً يُمكن أنْ يحدث ألف مرّة. صحيحٌ أنّي لم أعد أغضب أبداً في موقع التصوير. من قبل، كنت أكثر غضباً. لكنْ، بما أنّي أكبر سنّاً الآن، صرت أقول لنفسي إنّي إذا كنت سأصنع أفلاماً لأعذّب نفسي، فلا طائلة من الأمر برمّته.

 

(*) هل المونتاج لحظتك المفضّلة، عادة؟ أشعر أنّك تُفضّل التصوير أكثر.

لا. أحبّ المونتاج حقّاً. إنّه مرحلة لا تقلّ إبداعاً عن التصوير، لأنّنا نعيد كتابة الفيلم بالكامل. عندما يقوم المونتير بتوضيب الفيلم كما هو مكتوب على الصفحات ونشاهده، نُدرك أنّنا كتبنا أشياء أكثر ممّا يلزم، غالباً. أشياء لا تشتغل، وأخرى تُشعرنا بالملل، وهناك تكرار. إنّها الكارثة، وينبغي إصلاح كلّ ذلك في المونتاج. بعد ذلك، عندما تُصلَّح الأمور قليلاً، يمكن التقدّم، وجعل الفيلم أكثر تفرّداً، وذلك يمرّ غالباً عبر إزالة المزيد من الأشياء.

 

(*) عُرض الفيلم لأول مرة في برنامج "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ76 (2023) لمهرجان "كانّ" السينمائي. هذا القسم يُشكّل نوعاً من التكريس، لأنّه ليس تنافسياً. أجد أنّ الأفلام المعروضة فيه أصلية، عادة، ولها تفرّد أقوى من المُشارِكة في المسابقة الرسمية.

أعتقد ذلك أيضاً. الأمر نفسه مع بعض أفلام "نظرة ما". هناك شيءٌ يميّز هذه الأفلام، لكنّي لا أعرف ماذا حقّاً. شاركتُ سابقاً بـ"النحن والأنا" في القسم نفسه. صوّرته في "برونكس" في بنيويورك، وحضر ممثلون كثيرون عرضه الأول معي. كان بعضهم يستقلّ طائرة لأوّل مرة في حياته. إنّه أمرٌ رائع، لأنّك لا تشعر بأيّ خوفٍ من الفشل. بمجرّد دعوتك إلى المشاركة، تُحسّ كأنّك فزت بالجائزة. عندما تلقّيت الدعوة، أحسست بسعادة حقيقية. احتفل الفريق كلّه بذلك. اشتغلوا وفق النموذج الثالث (Annexe 3)، أي أنّهم وافقوا على العمل مقابل أجر أقلّ مع الحصول على حصّة من الأرباح. هذا سخيٌ للغاية، لأنّه سمح بصنع فيلمٍ غريب لم يكن سهلاً جمع المال له إطلاقاً.

المساهمون