ميديا وأصدقاء آخرون عرفتهم في أثينا

ميديا وأصدقاء آخرون عرفتهم في أثينا

05 أكتوبر 2022
يؤدي المملثون العمل بالإنكليزية واليونانية (فيسبوك)
+ الخط -

يتساءل من يزور أثينا عن إمكانية وجود مسرح يوناني تقليدي. ولا نقصد، هنا، البناء، فالمدينة غنية بالمسارح التاريخيّة. لكننا نتحدّث عن عرض يحاكي المسرحيات التي كانت تقام هناك، وما زالت أسماء كتابها تذكر إلى الآن، مثل كيوربيدس وسوفوكل وأريستوفانيس. الإجابة عادة هي أن عروضاً كهذه محصورة في المهرجانات، لكن يمكن للسائح، سواء كان يهبط من الأكروبول أو يتجه نحوه عبر ساحة مونستراكي، أن يخوض تجربة كهذه.
ما نتحدث عنه هو عرض "ميديا وأصدقاء آخرون عرفتهم في أثينا" (Medea and other friends I made in Athens) الذي يقام يومياً على سطح مبنى "مكتبة جامعة ويبستر" الأميركيّة، ويشارك فيه أربعة ممثلين رجال (الإناث لم يكن يسمح لهن بالأداء في تلك الفترة)، ضمن عرض مستمد من التاريخ الإغريقي، إذ نسمع حكايات عن أوديسيوس ويروبيدس وميديا وغيرهم، ضمن مزيج يراهن على التسلية والمتعة.
ما يميز هذا المكان هو موقعه، فالمسرح الإغريقي يقع أسفل معبد الآلهة (البارثنون ومعبد أثنيان). وهذا ما يوفره السطح، إذ نطل على المعبد المقدس من أسفل، وكأن الآلهة اليونانية التي تتم مخاطبتها في العرض موجودة في الأعلى، تحدق فينا. ما يحيلنا إلى تاريخ المسرح بوصفه طقساً تعليمياً وتثقيفياً. وهنا يتضح حذف القائمين على العرض، الذين يتبنون أعراف المسرح اليونانية بصورة معاصرة، كونهم أيضاً يستخدمون الأقنعة المصنوعة من المواد الطبيعية، ويلعبون دور البطل والكورس، يتنكرون ويغيرون أزياءهم، والأهم، يظهر القائم باللعبة بداية، ليخبرنا بما سنراه، التقليد المسرحي الذي تلاشى في الأشكال المسرحية الحاليّة.
لا بد أن نشير إلى أن دور القائم باللعب جوهري في هذا الشكل من العروض، فهو يخبرنا بكل ما نراه، ويشرح لنا أبعاده، وهذا اللافت، فالعرض (كحالة العروض القديمة) لا يحاول إيهامنا بأن من نراهم هم فعلاً أوديسيوس وميديا مثلاً، فالإيهام أساسه عاطفي ووجداني، ليس عقلانياً، ولا يقوم على أساس التطابق الشكلي بين الممثل والشخصية التي يؤديها. وهذا بالضبط ما يعكس الصيغة التعليمية والترفيهية للمسرح اليوناني، المهم هو العبرة والتطهير، والتصديق عبر الشعرية، وليس عبر مطابقة الواقع.
يستمر العرض لما يتجاوز الساعة، ونشاهد فيه تراجيديا وكوميديا وساتير. التقسيمات التقليدية للفضاء المسرحي اليوناني. في الوقت ذاته، لا يخلو من إشارات معاصرة. هناك سخرية من الغرماء "الرومان"، بل إن العرض قائم على أساس سائح إيطالي، يضيع في أثينا، ويجد نفسه ضمن رحلة زمنية في الماضي، يختبر حذلقات التجار اليونانيين، ويتعرف إلى معتقداتهم وسخريتهم منها، وسعيهم إلى الثروة.
هناك بعض اللحظات المؤثرة في العرض، والمصممة لاستثارة الجمهور، فميديا التي تقتل أولادها، تقوم بذلك أمام أعين الآلهة، تلك التي من المفترض أنها تطل علينا نحن المشاهدين من الأكروبول، كذلك استعادة حكاية أوديسيوس مع السايكلوبس تحوي حكمة أبديّة، ألا وهي نفي الذات في سبيل إيجادها. أو كما في بداية المسرحيّة، ليست الحكاية إلا حجة رجل ترك منزله ليلاً وغاب عشرين عاماً، وكان مبرره أمام زوجته بينلوب التي تنتظره، الاختطاف الذي تعرض له.

اللافت أيضاً أن الممثلين الأربعة ليسوا هواةً، إذ يغنون ويؤدون ويلقون الشعر، باللغات الإنكليزية واليونانية وأحياناً الإيطاليّة، وهذا ما يفسر قدرتهم على العرض كل يوم بالحيويّة ذاتها. ناهيك عن أن العرض يتحرر من صيغة المسرح التقليدية كونه سياحياً، إذ بالإمكان الشرب والتدخين والاستمتاع بالإطلالة الخلابة للمكان، في محاولة لالتقاط روح المسرح الإغريقي، هو ليس مجرد طقس مشاهدة مغلق، بل مساحة للترويح عن النفس وتلقي الحكمة، بالإمكان الاقتناع بها أو السخرية منها، فلا جدية أمام الآلهة الإغريقية.

المساهمون