موسيقى الجاز... وقوف على تلك العتبات العملاقة

موسيقى الجاز... وقوف على تلك العتبات العملاقة

30 يناير 2022
جون كولترين في عام 1964 (Getty)
+ الخط -

لا ينبغي لأيّ حديث عن ارتباط الموسيقى بالعلوم النظرية، كالفيزياء والرياضيات، أن يُثير الإعجاب أو الاستغراب لدى القارئ. فمنذ العصور القديمة، سواء لدى الصينيين أو الإغريق، مروراً بالعصور الوسطى، بفضل إسهامات العلماء المسلمين، وصولاً إلى الحداثة وما بعدها، كان للموسيقى دوماً علاقة وثيقة ومتصلة بالبحوث العلمية والمساعي المعرفية المختلفة؛ إذ إنّ الصوت ظاهرة فيزيائية أولاً، قبل أن يكون ظاهرة جمالية أو وسيلةً للتعبير.

كذلك فإنّ الآلة الموسيقية، مهما بُسِّط عمرانها وسَهُل العزف عليها، لها تصميم هندسي معقد، يقوم على حسابات رياضية دقيقة. فضلاً عن مجمل النظريات الموسيقية التي تطورت وتفرّعت عبر العصور، سواء لجهة الهارموني (الانسجام) أو الإيقاع، والتي تحكم كلّ منهما أنساق ومعادلات في التأليف والتوزيع، منها التقليدي الثابت، ومنها ما يتبدل ويتغيّر باستمرار.

ما قد يبدو غريباً، ربما، ويجدر لفت الانتباه إليه، هو البعد العلمي والفكري الذي تميزت به موسيقى الجاز تحديداً، خصوصاً في مراحلها الوسطى والمتأخرة. المألوف والشائع، أنّ الجاز جنسٌ موسيقي حسّي، يلعب النبض الإيقاعي فيه دوراً محورياً، كصدى لتلك الجذور البدئية والفطرية الممتدة من القارة الأفريقية، أتى به "العبيد" إلى يابسة العالم الجديد، ليمتزج بمكونات الموسيقات الأخرى، التي جاء بها الأوروبيون بدورهم، عندما غزوا ثم استعمروا الأميركيتين.

هكذا، ومنذ مطلع القرن العشرين، ظهر الجاز ضمن المشهد الثقافي الغربي، كموسيقى تتميز بعناصر إيكزوتيكية بدائية، تُثير غرائز شهوانية، تحفز على الرقص، تُزين بها الفضاءات الصوتية للنوادي الليلية والحانات. ظهر كأحد تجليات التحرر الاجتماعي، الذي أخذت المجتمعات الغربية البيضاء تعيشه وتُبشّر به.

إلّا أنّ ذلك التمظهر، قد رافقه وما زال، تعتيمٌ وتغييب له سياق عنصري مُمأسس، كما هي العادة الكولونيالية، على سعة ثقافة فناني الجاز الأميركيين من أصول أفريقية، وعمق البعد الفكري لمُمارستهم الفنية، ومدى الإسهام العلمي، فضلاً عن الإبداعي والجمالي، في تحليلهم النقدي والتقني للموسيقى، ومن ثم إضافاتهم الخلاقة على أطرها النظرية والفلسفية.

واحد من تلك العقول السوداء النيرة، هو عَلم آلة الساكسفون الأسطع جون كولترين (1926 - 1967). انتمى صاحب ألبوم Giant Steps الثوري إلى الجيل المتقدم من تلك الحقبة المشوّقة والمفعمة بالطاقة لموسيقى الجاز، والمعروفة بـ بي بوب (Be Bop)، حيث الجاز حركي صاخب، يتميز بإيقاع تصدره صنوج طبول الدرامز، معاكس، متواتر، خفيف وسريع. لم يعكس فقط هرج ومرج حياة المدن الصناعية في وسط الولايات المتحدة وشرقها فحسب، بل مثّل تحوّراً تطورياً في مسار موسيقى الجاز، حيث نقلها من نطاق الترفيه إلى فضاء التفكير، ومن نوادي السهر، إلى غُرف الاستوديو وألواح الرسم والكتابة؛ فتُطوّب بهذا شكلاً فنياً أميركيَّ الهوية، عالمي الرسالة. يحمل في مكنونه رؤى وأفكاراً، ويعكس مسائل نظرية شاغلة، وحلولاً عملية جادة.

كان الفيزيائي وعازف الساكسوفون الأميركي، ستيفون ألكساندر، قد أثار في كثير من منشوراته ومحاضراته، نقاط التقاطع والتلاقي بين مُخيلتَي كل من كولترين، ومن يا تُرى؟ ألبرت أينشتاين! اسمٌ لم يكن لأحد على الأغلب، أن يتوقع وروده ضمن مقالة عن موسيقى الجاز.

قُبيل مماته، قدم كولترين إلى فيزيائي موسيقي أفروأميركيّ آخر، هو يوسف لطيف، رسماً كان قد أعده على شكلٍ حلقي، سيُعرف فيما بعد بـ "دائرة كولترين" أو "العتبات العملاقة" (Giant Steps)، كما هو عنوان الألبوم سابق الذكر. يُشبه إلى حد بعيد ما يُعرف في العلوم الموسيقية بـ "دائرة الخماسيات"، التي لها شكل قرص ساعة حائط، تُصنّف ضمنها النغمات الاثنتا عشرة المُعدّلة، بحيث تبعد كلّ منها عن الأخرى مسافة خماسية.

إلّا أنّ دائرة كولترين لم تكن مُخططاً فيزيو-موسيقيّاً نظريّاً فقط، مهمته رسم مسار الانتقالات الهارمونية واشتقاقاتها، التي تؤسس عليها مؤلفات الموسيقي وارتجالاته، لتبعد كلّ منها عن الأخرى مسافة ثلاثية كبيرة، وإنّما أيضاً، بحسب كلام لطيف، خريطة لرحلة فلسفية روحانية تستلهم وتستعيد تقاليد العَود الأبدي لدى الديانات الشرقية، متجاوزةً المنحى التطوري الخطي ذا الوجهتين الممتد قُدماً، والذي ارتكز عليه الفكر الغربي منذ عصر التنوير، في مجالات العلوم والتاريخ والفلسفة، وإسقاطاته الجمالية على كلّ من العمارة والفنون.

أما ألكساندر، فيذهب جهة آينشتاين، ليرى في دائرة كولترين ما يُشبه الأشكال المدارية التي تسبح ضمنها المادة، عندما ينحني الزمكان، تحت وطأة كلّ من الطاقة وقوة الدفع، بحسب نظرية النسبية العامة ونظرية آينشتاين الكمية.

موسيقي أسود آخر، كان لسلاسله الهارمونية المعقدة والفريدة الأثر البالغ، ليس على الجاز وحده، بل الموسيقى عموماً بمجالاتها الكلاسيكية والمعاصرة والجماهيرية، والذي قال يوماً إنّ "كلّ الموسيقيين هم أيضاً بالنتيجة عُلماء رياضيات"... إنّه ثيلونيوس مونك (Thelonious Monk / 1917-1982).

وُصمت موسيقى مونك بالنفور وعسر الاستماع إليها. كانت أصابعه تنهال على مفاتيح البيانو كالمطارق. كذلك صُمِّمت معظم ارتجالاته آنياً، بحيث ترتكز دائماً على نبض ناشز معاكس يبعث على التأهب المستمر، ويسبب صعوبة في الارتكان إلى أيّ فسحة تستريح خلالها الآذان.

إلّا أنّ مونك، كـ كولترين، لم يشتغل بالموسيقى فقط ليُمتع الناس في الحانات وحلبات الرقص ويكسب الرزق، بل كان يرى فيها طريقاً إلى السعي الجمالي والتأمل الروحي والبحث العلمي. هكذا، نظر إلى لوح مفاتيح البيانو الممتد سواداً وبياضاً من أمامه، ليس كماكينة لإصدار الأصوات، بل كحاسوب رياضي. عبره، يمكن توليد اللامنتهي واللامتناهي من الأنماط الهندسية والأشكال الفراغية، التي من شأنها أن تُعيد تكوين الموسيقى، بعدما تأسست خلال الحقبات السابقة، وذلك لجهة العلاقات التي تتشكل بين كلّ من الهارموني والإيقاع. ليس على قاعدة التناغم والاتساق، بل التنافر والافتراق. تشبه بصورة مدهشة المساحات الفارغة الناتجة من كُسوريات fractal الآحاد والأصفار، كالتي تدعى "غبار كانتور" (Cantor Dust). 

المحصلة السمعية لتلك الأنماط الهارمونية المعقدة والنماذج الإيقاعية المركبة، كانت قد صممت بعقل عالم، وقلب شاعر، وأذن فنان مرهف، لتبعث في النفس شعوراً عارماً بالتوتر وعدم الارتياح. فتتناهى منسجمةً مع أمزجة الرفض والاحتجاج، التي رافقت حركة الحقوق المدنية زمان خمسينيات القرن الماضي وستينياته، في مواجهة التمييز العرقي ضد السود في الولايات المتحدة الأميركية. الرسالة، إذاً، ماثلة، وإن كانت مستترة خلف الإيقاعات النابذة والألحان النافرة. موسيقانا مُختبرٌ أسود، نُعد فيه وسائلنا، نكافح بها القوى الساعية إلى مسحنا من ذاكرة الإنسانية. بفضلها، لن يبقى الإبداع البشري بلون واحد.

المساهمون