مهران كريمي ناصري والمطار الذي حوّله إلى ألفريد

مهران كريمي ناصري والمطار الذي حوّله إلى ألفريد

17 نوفمبر 2022
رحل قبل أيام عن 77 عاماً (إريك فوغير / Getty)
+ الخط -

يُنظر إلى المطارات، وخصوصاً مساحات الانتظار فيها (نقطة مغادرة الأراضي الوطنية وقبل صعود الطائرة)، بوصفها مساحات استثنائيّة. تتعطل فيها السيادة الوطنيّة، ويمكن أن يدخل فيها الفرد ضمن إشكاليات قانونيّة تفقده صيغة المواطن، ليجد نفسه عالقاً لسنوات أحياناً في اللامكان. هو ليس داخل البلاد، وليس خارجها. وهذا بالضبط ما حصل مع مهران كريمي ناصري (1945 - 2022)، الذي غادر عالمنا قبل أيام؛ إذ بقي "عالقاً" في مطار شارل ديغول في فرنسا، بين عامي 1988 و2006، ثم خرج منه لينال حق اللجوء على الأراضي الفرنسية.
لم يشر فيلم The Terminal، المقتبس -بصيغة ما- عن قصة ناصري، إلى حقيقة الإشكالية السياسية التي وقع بها اللاجئ الإيراني؛ فبعكس الشخصية التي أدّاها توم هانكس ولم يشر عبرها ولا ضمن الفيلم إلى هوية ناصري أو اسمه، فإن هذا الأخير ممنوع من مغادرة المطار، كونه لم يعد يمتلك أوراقاً إيرانيّة، أي لا يخضع للسلطات الإيرانية التي طردته من بلده الأم، ولا الفرنسية التي رفضت إدخاله أراضيها، ولا البريطانية التي طردته نحو فرنسا، إذ وجد نفسه معلقاً. هو بلا وطن، ولا أرض ثابتة من تحته. وهنا الإشكالي في قصته؛ إذ لم يتمتع الرجل الراحل بحقوق المواطن ولا حقوق اللاجئ. المأساوي في حكاية مهران، أنه في اللامكان، وتحول حسب المصطلح السياسي إلى "حياة صرفة"؛ أي الفرد المجرد من حقوقه المتروك للموت، كونه على حافة الحياة. وهذا ما يفسر أنه لسنوات طويلة عاش على التبرعات والمساعدات العينية التي يقدمها له موظفو المطار والمسافرون.
إشكالية مهران أنه بلا هوية، إلى حد تبنيه اسم "السيد ألفريد"، وإنكاره أنه إيراني وادعائه أنه بريطاني. هذا الحبس طويل الأمد الذي وجد نفسه فيه، لم تتلاشَ آثاره حتى بعد أن غادر، فالحياة في المطار، من دون عمل، تهدد ألفريد وتماسكه الذاتي. النقود أساس التبادل الاقتصادي لا معنى لها بالنسبة له، هو محروم من العمل، ولا يوجد ما يفعله في المطار. هو في انتظار طويل لا خلاص منه إلا بمحكمة، كونه ضحية المعاملات البيروقراطية، ومساحة مصممة للحد من الهجرة. فمساحة الانتظار تخضع للسلطات المحلية وسلطة الإنتربول في ذات الوقت. وبعكس أشهر سيناريو ديستوبي لأثر البيروقراطية المتمثل بـ "المحاكمة" لكافكا، السيد ألفريد لا يركض بين الدوائر الحكومية محاولاً إيجاد أوراقه، إنما هو في "الخارج" بلا اسم. والأهم، محاط بمطاعم وبضائع ذات أثمان باهظة... في مكان "غير مجمرك". أي بصورة شعريّة، هو في مكان متحرر من القيود الاقتصاديّة، من دون أن يتمكن من شرائها، عدا وجبات ماكدونالدز التي كان يحصل عليها مجاناً من الموظفين الذين أصبحوا أصدقاء له.


اللافت في قضية السيد ألفريد، أيضاً، أن مسؤولية إيجاد أوراقه الرسمية تقع على عاتقه، حتى قرار اللجوء الذي حصل عليه في بلجيكا، وكان من الممكن أن يحل معضلته. لم يتمكن من الحصول عليه، كون القانون ينص على أن صاحب القرار باللجوء عليه أن يأتي بشكل شخصيّ ليستلم أوراقه. وبالطبع، فالسيد ألفريد لا يستطيع المغادرة، وجهود المحامين استمرت لسنوات من الدعاوى والطعون، إلى أن تمكن من الحصول على أوراق رسمية فرنسية بصيغة لاجئ.

حكاية مهران، أو السيد ألفريد، نموذج مثالي لمساحات الاستثناء المعاصرة، التي عادة ما توسم بها السجون السريّة أو المستعمرات القديمة، في حين أن المطارات تهمل من هذه الدراسات، لكنها حسب البعض أدوات سياسية توظفها السيادة الوطنية لممارسة مفهوم "المنع"، أي منع ألفريد من الدخول بين مواطنيها، ومنعه من المغادرة كي لا تتحمل مسؤوليته. هذه المفارقة بالذات يشير إليها جورجيو أغامبين بوصفها أساس السيادة السياسية المعاصرة، وهي ترك فئة على الحواف، ليست في الداخل ولا في الخارج.

المساهمون